يروحها ويقول: أصابك من الحر ما أصابنى. وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرا. فقال:
بل جزى الله الإسلام عنى خيرا. ويقال إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحا غليظا من شعر، ويضع في رقبته غلا إذا قام يصلى من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالا أو جوهرا من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غل ومسح.
وكان يبكى حتى يبكى الدم من الدموع، ويقال إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وقرأ رجل عنده ﴿وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ﴾ الآية، فبكى بكاء شديدا ثم قام فدخل منزله وتفرق الناس عنه، وكان يكثر أن يقول: اللهمّ سلم سلم، وكان يقول: اللهمّ أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد ﷺ، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد ﷺ. وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم. وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة. وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم وأحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتهم وأبعدتهم عن الله. وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع. وقال لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله. وقال: أزهد الناس في الدنيا على بن أبى طالب. وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطى أو منع. وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الأكبر: القناعة وكف الأذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال. وقصته مع أبى حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقيا؟ ووجهك وضيا؟ وطعامك شهيا؟ ومركبك وطيا؟
فقال له: ألم تخبرني عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن من ورائكم عقبة كئودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول»؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الأربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قتلني ربى بكل قتلة قتلة، ثم ها أنا أنتظر ما ينتظره الموحدون. وفضائله ومآثره كثيرة جدا، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
[ذكر سبب وفاته ﵀]
كان سببها السل، وقيل سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف