للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ. وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر إسناد صحيح. قلت: وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق. والأمر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة.

وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة؟ فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى لأنهم قدموا عثمان .

[فصل في ورعه وتقشفه وزهده ورضى عنه]

روى البيهقي من طريق المزني عن الشافعيّ أنه قال للرشيد: إن اليمن يحتاج إلى قاض، فقال له: اختر رجلا نوله إياها. فقال الشافعيّ لأحمد بن حنبل وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه: ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا وقال للشافعي: إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحى الشافعيّ منه.

وروى أنه كان لا يصلى خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضا، لأنهم أخذوا جائزة السلطان. ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال: ما هذه العجلة! كيف خبزتم؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه. فقال: ارفعوا، ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح. قال البيهقي: لأن صالحا أخذه جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله. وقال عبد الله ابنه: مكث أبى بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما لم يأكل فيها إلا ربع مد سويقا، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر. وقد رأيت موقيه دخلا في حدقتيه. قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا. قال: وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحد إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى.

وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامي باليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما. فاشتبه عليه أيهما له فقال: أنت في حل منه ومن الفكاك، وتركه وذهب. وحكى ابنه عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فكتب رجل إلى أبى: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبى وليست صدقة ولا زكاة، فان رأيت أن تقبلها. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبى: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها

<<  <  ج: ص:  >  >>