للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ بِالْهَاشِمِيَّةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهَا فِي السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ.

وَقَدْ كَانَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى بِنَائِهَا أَنَّ الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ فَخَشِيَ عَلَى جُنْدِهِ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَرْتَادُ لَهُمْ مَوْضِعًا لِبِنَاءِ مَدِينَةٍ، فَسَارَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَ الْجَزِيرَةَ فَلَمْ يَرَ مَوْضِعًا أَحْسَنَ لِوَضْعِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَوْضِعِ بَغْدَادَ الَّذِي هِيَ فِيهِ الْآنَ، وَذَلِكَ بأنه موضع يغدا إِلَيْهِ وَيُرَاحُ بِخَيِّرَاتِ مَا حَوْلَهُ فِي الْبَرِّ والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من هاهنا وهاهنا، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى مَوْضِعِ الْخَلِيفَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرٍ، وَقَدْ بَاتَ بِهِ المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لِعُبَّادِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ- ذَكَرَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا بِأَسْمَائِهِ وتعداده أبو جعفر ابن جرير- فَحِينَئِذٍ أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِاخْتِطَاطِهَا فَرَسَمُوهَا لَهُ بِالرَّمَادِ فَمَشَى فِي طُرُقِهَا وَمَسَالِكِهَا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهَا لِأَمِيرٍ يَقُومُ عَلَى بِنَائِهِ، وَأَحْضَرَ مِنْ كُلِّ الْبِلَادِ فُعَّالًا وَصُنَّاعًا وَمُهَنْدِسِينَ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أُلُوفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ لَبِنَةً فِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّه، وَالْأَرْضُ للَّه يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ثُمَّ قَالَ: ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. وَأَمَرَ بِبِنَائِهَا مُدَوَّرَةً سُمْكُ سُورِهَا مِنْ أَسْفَلِهِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ أَعْلَاهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَجَعَلَ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ فِي السُّورِ الْبَرَانِيِّ، وَمِثْلَهَا فِي الْجَوَّانِيِّ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ تُجَاهَ الْآخَرِ، وَلَكِنِ جعله أزور عن الّذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل سميت بذلك لانحراف دجلة عندها.

وَبَنَى قَصْرَ الْإِمَارَةِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَاخْتَطَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ إِلَى جَانِبِ الْقَصْرِ، وَكَانَ الَّذِي وَضَعَ قِبْلَتَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُقَالُ إِنَّ فِي قِبْلَتِهِ انْحِرَافًا يَحْتَاجُ الْمُصَلِّي فِيهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُ لِأَنَّهُ بُنِيَ قَبْلَ الْقَصْرِ، وَجَامِعُ الْمَدِينَةِ بُنِيَ عَلَى الْقَصْرِ، فَاخْتَلَّتْ قُبْلَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَجَالِدٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَرَادَ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فَحَلَفَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَتَوَلَّى لَهُ، وَحَلَفَ أَبُو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا مِنَ اسْتِتْمَامِ حَائِطِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْخَنْدَقَ، وكان استتمامه في سنة أربع وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ الْمَنْصُورَ عَرَضَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ فَامْتَنَعَ، فَحَلَفَ أَنْ لا يقلع عنه حتى يعمل له، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فَدَعَا بِقَصَبَةٍ فَعَدَّ اللَّبِنَ لِيُبِرَّ بِذَلِكَ يَمِينَ أَبِي جَعْفَرٍ، وَمَاتَ أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك. وذكر أن خالد ابن بَرْمَكَ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْمَنْصُورِ بِبِنَائِهَا، وأنه كان مستحثا فيها للصناع، وَقَدْ شَاوَرَ الْمَنْصُورُ

<<  <  ج: ص:  >  >>