وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبّل التراب. فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه كلام بحضرة الناس يؤثر عنه. ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة بقوله ﴿وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ﴾ الآية. ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ ﴿ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه فبكى عضد الدولة بكاء كثيرا، وجزاه خيرا. فلما خرج من عنده قال للحاجب: اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فان قبلها جئني برأسه، قال الحاجب: فجئته فقلت: هذا أرسل به الملك إليك. فقال: لا حاجة لي به، هذه ثيابي من عهد أبى منذ أربعين سنة كلما خرجت إلى الناس لبستها، فإذا رجعت طويتها، ولي دار آكل من أجرتها تركها لي أبى فانا في غنية عما أرسل به الملك. فقلت: فرقها في فقراء أهلك. فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء أهلي، وأفقر إليها منهم.
فرجعت إلى الملك لأشاوره وأخبره بما قال، فسكت ساعة ثم قال: الحمد لله الّذي سلمه منا وسلمنا منه. ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعز الدولة فأمر به فوضع بين قوائم الفيلة فتخبطته بأرجلها حتى هلك، ثم صلب على رأس الجسر في شوال منها، فرثاه أبو الحسين بن الأنباري بأبيات يقول فيها:
علو في الحياة وفي الممات … بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا … وفود نداك أيام الصلات
كأنك واقف فيهم خطيبا … وكلهم وقوف للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء … كمدهما إليهم بالهبات
وهي قصيدة طويلة أورد كثيرا منها ابن الأثير في كامله.
[صفة مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وأخذ الموصل وأعمالها]
لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها خرج منها بختيار ذليلا طريدا في فل من الناس، ومن عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبى تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فحلف له على ذلك، وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة ابن حمدان فحسن لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبى تغلب، لأنها أطيب وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه، وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين، فلما بلغ ذلك أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخى حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها. فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبى تغلب