فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَأَجَبْتُهُ، فَقَضَى دَيْنِي وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ، وَقَالَ لِي: اطْلُبِ الْعِلْمَ فَإِنِّي أَرَى لَكَ عَيْنًا حَافِظَةً وَقَلْبًا ذَكِيًّا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَطْلُبُ الْعِلْمَ وَأَتَتَبَّعُهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةً بِقُبَاءَ رَأَتْ رُؤْيَا عَجِيبَةً، فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّ بِعْلِي غاب وَتَرَكَ لَنَا خَادِمًا وَدَاجِنًا وَنُخَيْلَاتٍ، نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَنَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمَةِ وَالْيَقْظَى رَأَيْتُ كَأَنَّ ابْنِي الْكَبِيرَ- وَكَانَ مُشْتَدًّا- قَدْ أَقْبَلَ فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ وَلَدَ الدَّاجِنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يُضَيِّقُ عَلَيْنَا اللَّبَنَ، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ بِهَا أَخَاهُ، وَأَخُوهُ صَغِيرٌ كَمَا قَدْ جَاءَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورَةً، فَدَخَلَ وَلَدِي الْكَبِيرُ فَقَالَ: أَيْنَ اللَّبَنُ؟ فقلت: يا بنى شَرِبَهُ وَلَدُ الدَّاجِنِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْنَا اللَّبَنَ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَهُ وَقَطَّعَهُ فِي الْقِدْرِ، فَبَقِيتُ مُشْفِقَةً خَائِفَةً مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذْتُ وَلَدِي الصَّغِيرَ فَغَيَّبْتُهُ فِي بَعْضِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَأَنَا مُشْفِقَةٌ جِدًّا مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: مَا لَكِ مُغْتَمَّةً؟ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا فَأَنَا أَحْذَرُ مِنْهُ فَقَالَ: يَا رُؤْيَا يَا رُؤْيَا، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ قَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَحْلَامُ يَا أَحْلَامُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ دُونَهَا فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَضْغَاثُ يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ فقالت إنها امرأة صالحة فأحببت أن أعلمها سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَجَاءَ ابْنِي فَوَضَعَ الطَّعَامَ وقال: أين أخى؟ فقلت: دَرَجَ إِلَى بُيُوتِ الْجِيرَانِ، فَذَهَبَ وَرَاءَهُ فَكَأَنَّمَا هدى إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وَجَلَسْنَا جَمِيعًا فَأَكَلَنَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.
وُلِدَ الزُّهْرِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ قَصِيرًا قَلِيلَ اللِّحْيَةِ، لَهُ شَعَرَاتٌ طِوَالٌ خَفِيفُ الْعَارِضِينَ. قَالُوا: وَقَدْ قَرَأَ القرآن في نحو من ثمان وثمانين يَوْمًا، وَجَالَسَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ ثَمَانَ سِنِينَ، تَمَسُّ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، وَكَانَ يَخْدِمُ عُبَيْدَ اللَّهِ بن عبد الله يستسقى لَهُ الْمَاءَ الْمَالِحَ، وَيَدُورُ عَلَى مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الْحَدِيثَ، وَيَكْتُبُ عَنْهُمْ كُلَّ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ، حتى صار من أعلم الناس وأعلمهم فِي زَمَانِهِ، وَقَدِ احْتَاجَ أَهْلُ عَصْرِهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ، فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أحدا من المسلمين. وقال أبو إِسْحَاقَ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ عُرْوَةَ فيقول لجارية عنده فيها لكنة: ثنا عُرْوَةُ ثَنَا فُلَانٌ، وَيَسْرُدُ عَلَيْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَتَقُولُ لَهُ الْجَارِيَةُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، فَيَقُولُ لَهَا: اسْكُتِي لَكَاعِ، فَإِنِّي لَا أُرِيدُكِ، إِنَّمَا أُرِيدُ نَفْسِي. ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَكْرَمَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ وَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ، الْوَلِيدِ وسليمان، وكذا عند عمر
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute