ابن الجوزي: وكان من سادات العلماء الثقات، وشهد عند ابن ماكولا وابن الدامغانيّ فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة، وكان إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع الإمامة والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن السمت، والصمت عما لا يعنى توفى في العشرين من رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والأعيان، وكان يوما حارا، فأفطر بعض من اتبع جنازته، وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم، وأبا الحسين وأبا حازم، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: رحمني وغفر لي وأكرمنى، ورفع منزلتي، وجعل يعد ذلك بإصبعه، فقال: بالعلم؟ فقال: بل بالصدق.
[ابن سيده]
صاحب المحكم في اللغة، أبو الحسين على بن إسماعيل المرسي، كان إماما حافظا في اللغة، وكان ضرير البصر، أخذ علم العربية واللغة عن أبيه، وكان أبوه ضريرا أيضا، واشتغل على أبى العلاء صاعد البغدادي، وله المحكم في مجلدات عديدة، وله شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك، وقرأ على الشيخ أبى عمر الطملنكى كتاب الغريب لأبى عبيد سردا من حفظه، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه، توفى في ربيع الأول منها وله ستون سنة، وقيل إنه توفى في سنة ثمان وأربعين، والأول أصح، والله أعلم.
[ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة]
فيها بنى أبو سعيد المستوفي الملقب بشرف الملك، مشهد الامام أبى حنيفة ببغداد، وعقد عليه قبة، وعمل بإزائه مدرسة، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرا لأبى حنيفة فأنشد:
ألم تر أن العلم كان مضيعا … فجمّعه هذا المغيب في اللحد
كذلك كانت هذه الأرض ميتة … فأنشرها جود العميد أبى السعد
وفيها هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير، وورد أن ببغداد تلف شجر كثير من الليمون والأترج. وفيها احترق قبر معروف الكرخي، وكان سببه أن القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه فتعدت النار إلى الأخشاب فاحترق المشهد. وفيها وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران، وأعمال خراسان بكمالها، ووقع الفناء في الدواب: كانت تنتفخ رءوسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر الوحش بالأيدي، وكانوا يأنفون من أكلها.
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظاميّة ببغداد، وعين لتدريسها ومشيختها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فلما