للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فان القلوب تتكافأ. وسمع عصافير يصحن فقال: أتدري ماذا يقلن؟ قلت: لا!! قال: يسبحن الله ويسألنه رزقهن يوما بيوم. وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الّذي تكره لم تخالف الله عز وجل فيما أحب. وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله عز وجل من أن يسأل. وما يدفع القضاء إلا الدعاء. وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يؤذى جليسه بما لا يعنيه. هذه كلمات جوامع موانع لا ينبغي لعاقل أن يفعلها. وقال القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق. وقال أبو جعفر: صحب عمر بن الخطاب رجل إلى مكة فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت:

وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلج من دون ما كان يأمل

وقال أبو جعفر: والله لموت عالم أحب إلى إبليس من موت ألف عابد. وقال: ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فان سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فان الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة رحم الله تلك الأمة. وقال: بئس الأخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا. قلت: البيت الّذي كان يتمثل به قبله بيتان وهو ثالثهما، وهذه الأبيات تتضمن حكما وزهدا في الدنيا قال:

لقد غرت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحول

فساخط أمر لا يبدل غيره ... وراض بأمر غيره سيبدل

وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلج من دون ما كان يأمل] [١]

ثم دخلت سنة ست عَشْرَةَ وَمِائَةٍ

فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصائفة، وفيها وقع طاعون عظيم بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ مُعْظَمُ ذَلِكَ فِي وَاسِطَ. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ الْفَاضِلَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَتَغْضَّبَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَدْرَكْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَأَزْهِقْ رُوحَهُ. فَمَا قَدِمَ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ حَتَّى مَاتَ الْجُنَيْدُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا بمرو، وقال فيه أبو الجرير عيسى بن عصمة يَرْثِيهِ:

هَلَكَ الْجُودُ وَالْجُنَيْدُ جَمِيعًا ... فَعَلَى الْجُودِ والجنيد السلام


[١] زيادة من المصرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>