وقطعت يده ولسانه، وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ. وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير وهو.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُقْلَةَ الْوَزِيرِ. وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، قليل المال، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ الوزارة لثلاثة من الخلفاء: الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي. وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ يده ولسانه في آخر عمره، وَحُبِسَ فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ. وَقَدْ بَنَى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ كما أشار به المنجمون. فَمَا لَبِثَ بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ كَوْمًا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مَا كَتَبُوا عَلَى جُدْرَانِهَا.
وَقَدْ كَانَ لَهُ بستان كبير جدا، عدة اجربة- أي فدادين- وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القماري والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ وَبَقَرِ الوحش والنعام وغير ذلك شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ صَارَ هَذَا كُلُّهُ عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء والزوال. وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا:
قل لابن مقلة: لَا تَكُنْ عَجِلًا ... وَاصْبِرْ، فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أحلام
تبنى بأحجر دور الناس مجتهدا ... دارا ستهدم قنصا بَعْدَ أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لها ... فكم نحوس بِهِ مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا ... فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي حال إبرام
فعزل ابن مقلة عن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقى الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلى الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى جَهْدًا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا. ومن شعره في يده:
ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة ... بِأَيْمَانِهِمْ، فَبَانَتْ يَمِينِي
بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني
ولقد حفظت مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي ... حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ، فَمَا حَفَظُونِي