للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صغير عثر به فرسه. وفي ثانى عشر ربيع الأول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من ستين بطش ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، فحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لأحد من ملوكهم معه كلام ولا حكم، لعظمته عندهم، وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الأشهب، هائل، فطار من يده فوقع على سور عكا فأخذه أهلها وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين، فبذل الفرنجى فيه ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك، وقدم بعده كيد فرير وهو من أكابر ملوكهم أيضا، ووصلت سفن ملك الانكليز، ولم يجيء ملكهم لاشتغاله بجزيرة قبرص وأخذها من يد صاحبها، وتواصلت ملوك الإسلام أيضا من بلدانها في أول فصل الربيع، لخدمة الملك الناصر. قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، حتى أنهم كانوا يسرقون الرجال، فاتفق أن بعضهم أخذ صبيا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجدا شديدا، واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها:

إن سلطان المسلمين رحيم القلب، وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشتكى أمرك إليه، قال العماد فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها، فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه. ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشترى، ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكى من شدة فرحها وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة رحمه الله تعالى وعفا عنه.

[فصل في كيفية أخذ العدو المخذول عكا من يدي السلطان قسرا]

لما كان شهر جمادى الأولى اشتد حصار الفرنج لعنهم الله لمدينة عكا، وتمالئوا عليها من كل فج عميق، وقدم عليهم ملك الانكليز في جم غفير، وجمع كثير، في خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة وابتلى أهل الثفر منهم ببلاء لا يشبه ما قبله، فعند ذلك حركت الكئوسات في البلد، وكانت علامة ما بينهم وبين السلطان، فحرك السلطان كوساته فاقترب من البلد وتحول إلى قريب منه، ليشغلهم عن البلد، وقد أحاطوا به من كل جانب، ونصبوا عليه سبعة منجانيق، وهي تضرب في البلد ليلا ونهارا، ولا سيما على برج عين البقر، حتى أثرت به أثرا بينا، وشرعوا في ردم الخندق بما أمكنهم من دواب ميتة، ومن قتل منهم، ومن مات أيضا ردموا به، وكان أهل البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر. وتلقى ملك الانكليز بطشة عظيمة للمسلمين قد أقبلت من بيروت مشحونة بالأمتعة والأسلحة فأخذها، وكان واقفا في البحر في أربعين مركبا لا يترك شيئا يصل إلى البلد بالكلية، وكان بالبطشة ستمائة من المقاتلين الصناديد الأبطال، فهلكوا عن آخرهم . فإنه لما أحيط

<<  <  ج: ص:  >  >>