الشام على مذهب الأوزاعي من حين مات إلى هذه السنة. وثبت على مذهب الأوزاعي بقايا كثيرون لم يفارقوه، وكان ثقة عدلا من سادات القضاة، وكان أصله من أهل الكتاب من اليهود، ثم أسلم وصار إلى ما صار إليه. وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.
[ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة]
فيها وقف المقتدر بالله أموالا جزيلة وضياعا على الحرمين الشريفين، واستدعى بالقضاة والأعيان، وأشهدهم على نفسه بما وقفه من ذلك. وفيها قدم إليه بجماعة من الأسارى من الأعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عليهم فقتلوهم، فأخذ بعضهم فعوقب لكونه افتات على السلطان. وفيها وقع حريق شديد في سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق بكماله، وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاثة عشر يوما، ولم يمرض في خلافته مع طولها إلا هذه المرضة.
وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي، ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فاتهمه بعض الكتاب بمراسلته القرامطة، فلما انكشف أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جدا.
[وممن توفى من الأعيان.]
[النسائي أحمد بن على]
ابن شعيب بن على بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن، الامام في عصره والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق، واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالأئمة الحذاق، ومشايخه الذين روى عنهم مشافهة. قد ذكرناهم في كتابنا التكميل وترجمناه أيضا هنالك، وروى عنه خلق كثير، وقد جمع السنن الكبير، وانتخب منه ما هو أقل حجما منه بمرات. وقد وقع لي سماعهما. وقد أبان في تصنيفه عن حفظ وإتقان وصدق وإيمان وعلم وعرفان. قال الحاكم عن الدار قطنى: أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وكان يسمى كتابه الصحيح. وقال أبو على الحافظ: للنسائى شرط في الرجال أشد من شرط مسلم بن الحجاج، وكان من أئمة المسلمين. وقال أيضا: هو الامام في الحديث بلا مدافعة. وقال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ. سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد. وقال غيره: كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان له أربع زوجات وسريتان، وكان كثير الجماع، حسن الوجه مشرق اللون. قالوا: وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر. وقال الدار قطنى: كان أبو بكر بن الحداد كثير الحديث ولم يرو عن أحد سوى النسائي وقال: رضيت به حجة فيما بيني وبين الله ﷿. وقال ابن يونس: كان النسائي إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، كان خروجه من مصر في سنة ثنتين وثلاثمائة. وقال ابن عدي: سمعت منصورا الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين، وكذلك