للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء:

وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ بُرْهَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَحَرَّكَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره، حتى آل بهم الْحَالُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَسَفَكُوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وَكَسَرُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَمَكَثَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِهِ من البيت ثنتين وعشرين سنة ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٢: ١٥٦. وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر.

وقد اتفق فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا ظُهُورُ هَؤُلَاءِ، والثاني موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبا العباس أحمد الملقب بالمعتضد، وكان شهما شجاعا

[وهذه ترجمة أبى أحمد الموفق]

هو الأمير الناصر لدين الله، ويقال له الموفق، ويقال له طَلْحَةُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، كَانَ مُوَلِدُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَخُوهُ المعتمد حين صارت الخلافة إليه قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ باللَّه، ثُمَّ لَمَّا قَتَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ وَكَسَرَ جَيْشَهُ تَلَقَّبَ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ وَالْحَلُّ وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى الْخَرَاجُ، وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَيُقَالُ: اللَّهمّ أَصْلِحِ الْأَمِيرَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ باللَّه وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ أَخَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ فَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَالنَّسَبِ وَالْفِقْهِ وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَرَضُ النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ وَقَدْ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَتَوَرَّمَتْ رِجْلُهُ حَتَّى عَظُمَتْ جدا، وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه، وكان يحمل على سريره، يحمله أربعون رجلا بالنوبة، كل نوبة عِشْرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا أَظُنُّكُمْ إِلَّا قَدْ مَلِلْتُمْ مِنِّي فَيَا لَيْتَنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ آكُلُ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ، وَأَرْقُدُ كَمَا تَرْقُدُونَ فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: فِي دِيوَانِي مِائَةُ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ لَيْسَ فِيهِمْ أحد أَسْوَأُ حَالًا مِنِّي.

ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحُسَيْنِيِّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سنة تنقص شهرا وأياما.

<<  <  ج: ص:  >  >>