وَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا بِاسْمِكَ اللَّهمّ، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ فُشَلَّتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: «يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ للَّه إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ» . فَقَالَ أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «نعم» ! قال فو الله مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ ابْنَ أخى قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ يَمْدَحُهُمْ:
أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيَّنَا [١] صُنْعُ رَبِّنَا ... عَلَى نَأْيِهِمْ وَاللَّهُ بِالنَّاسِ أَرْوَدُ
فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ ... وَأَنَّ كَلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ
تَرَاوَحَهَا إِفْكٌ وَسِحْرٌ مَجَمَّعٌ ... وَلَمْ يُلْفَ سحرا آخِرَ الدَّهْرِ يَصْعَدُ
تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرٍ ... فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدَّدُ
وَكَانَتْ كِفَاءً وَقْعَةٌ بِأَثِيمَةٍ ... لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلَّدُ
وَيَظْعَنَ أَهْلُ الْمَكَّتَيْنِ فَيَهْرُبُوا ... فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشَّرِّ تُرْعَدُ
وَيُتْرَكَ حَرَّاثٌ يُقَلِّبُ أَمْرَهُ ... أَيُتْهِمُ فِيهَا عِنْدَ ذَاكَ وَيُنْجِدُ
[وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ ... لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ]
فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضَّارِ مَكَّةَ عِزُّهُ ... فَعِزَّتُنَا فِي بَطْنِ مَكَّةَ أَتْلَدُ
نَشَأْنَا بِهَا وَالنَّاسُ فِيهَا قَلَائِلٌ ... فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنُحْمَدُ
وَنُطْعِمُ حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ فَضْلَهُمْ ... إِذَا جَعَلَتْ أَيْدِي المفيضين ترعد
جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا ... على ملاء يهدى لحزم ويرشد
قعودا لذي حطم الْحَجُونِ كَأَنَّهُمْ ... مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا مشى في رفرف الدرع أحرد
[١] قال السهيليّ: بحرينا يعنى الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه. وشرح الألفاظ الغريبة لهذا القصيدة وقد قابلناها على شرح غريب السيرة للخشنى.