للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حِصْنَ الطُّورِ حِصَارًا هَائِلًا وَمَانَعَ عَنْهُ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الْأَبْطَالِ مُمَانَعَةً هَائِلَةً، ثُمَّ كَرَّ الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الأسارى من المسلمين، وَجَاءَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ إِلَى الطُّورِ فَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِهِ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقَ هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.

[وفيها توفى من الأعيان.]

الشيخ الامام العلامة الشَّيْخُ الْعِمَادُ

أَخُو الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بن سرور المقدسي، الشيخ العمادي أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بِسَنَتَيْنِ، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا ورعا كَثِيرَ الصِّيَامِ، يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ فقيها مفتيا، وله كتاب الفروع وَصَنَّفَ أَحْكَامًا وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ مِحْرَابٍ، ثُمَّ وُضِعَ الْمِحْرَابُ فِي سَنَةِ سبع عشرة وستمائة، وكان أيضا يَؤُمُّ بِالنَّاسِ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. صَلَّى الْمَغْرِبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَكَانَ صائما ثم رجع إلى منزله بِدِمَشْقَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ بالجامع الأموي، صلى عليه الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، ثُمَّ صَعِدُوا بِهِ إِلَى السَّفْحِ، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا من كثرة الناس. قَالَ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ كَانَ الْخَلْقُ مِنَ الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السِّمْسِمُ مَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، وَمَرَّ بِذِهْنِي أَبْيَاتُ الثَّوْرِيِّ الَّتِي أَنْشَدَهَا بَعْدَ موته في المنام:

نَظَرْتُ إِلَى رَبِّي كِفَاحًا فَقَالَ لِي ... هَنِيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قواما إذا أظلم الدُّجَى ... بِعَبْرَةِ مُشْتِاقٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ

فَدُونَكَ فَاخْتَرْ أي قصر أردته ... وزرني فانى عنك غَيْرُ بَعِيدِ

ثُمَّ قُلْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ العماد رأى ربه كما رآه الثَّوْرِيُّ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ الْعِمَادَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ وَعِمَامَةٌ خَضْرَاءُ، وَهُوَ فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ كَأَنَّهُ رَوْضَةٌ، وَهُوَ يَرْقَى فِي دَرَجٍ مُتَّسِعَةٍ، فَقُلْتُ يَا عِمَادَ الدِّينِ كَيْفَ بِتَّ فَإِنِّي وَاللَّهِ مُفَكِّرٌ فِيكَ؟ فَنَظَرَ إِلَيَّ وتبسم على عادته التي كنت أعرفه فيها في الدنيا ثُمَّ قَالَ:

رَأَيْتُ إِلَهِي حِينَ أُنْزِلْتُ حُفْرَتِي ... وَفَارَقْتُ أَصْحَابِي وَأَهْلِي وَجِيرَتِي

وَقَالَ جُزِيتَ الْخَيْرَ عَنِّي فَإِنَّنِي ... رَضِيتُ فَهَا عَفْوِي لَدَيْكَ وَرَحْمَتِي

دأبت زمانا تأمل العفو وَالرِّضَا ... فَوُقِّيتَ نِيرَانِي وَلُقِّيتَ جَنَّتِي

قَالَ فَانْتَبَهْتُ وأنا مذعور وكتبت الأبيات والله أعلم.

القاضي جمال الدين ابن الْحَرَسْتَانِيِّ

عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الفضل أبو القاسم الأنصاري ابن الْحَرَسْتَانِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>