للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبة الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها، وفي المحرم منها مَرِضَ الْخَلِيفَةُ مَرَضًا شَدِيدًا فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ، فَرَكِبَ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ جَهْرَةً فَسَكَنُوا، وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، فَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ وَخِيفَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَنُقِلَ تَابُوتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْلًا إِلَى التُّرَبِ بِالرُّصَافَةِ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وذلك أن ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَجَلَسَ يَتَكَلَّمُ فِي النِّظَامِيَّةِ وَأَخَذَ يَذُمُّ الْحَنَابِلَةَ وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّجْسِيمِ، وَسَاعَدَهُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ، وَمَالَ مَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وَجُرِحَ آخَرُونَ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَكَتَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ في كِتَابُهُ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ يُنْكِرُ مَا وَقَعَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَعَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الرِّحْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ غَضَبًا مِمَّا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُهُ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي سَعْدٍ الصُّوفِيِّ، وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيِّ، عِنْدَ الْوَزِيرِ، فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَظِّمُهُ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، وَقَامَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْرِفُهُ وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافا للأشعرية، ثم قبّل رأس أبى جعفر، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ:

صَدَقْتَ، إِلَّا أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ تُظْهِرْ لَنَا مَا في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزرك- يعنى نظام الملك- وشبعت، أَبْدَيْتَ مَا كَانَ مُخْتَفِيًا فِي نَفْسِكَ. وَقَامَ الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رَأْسَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا وَتَلَطَّفَ بِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُغْضَبًا وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَّا الْفُقَهَاءُ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَهُمْ فِيهَا مَدْخَلٌ، وَأَمَّا أَنْتَ فَصَاحِبُ لَهْوٍ وَسَمَاعٍ وتغيير، فَمَنْ زَاحَمَكَ مِنَّا عَلَى بَاطِلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أيها الوزير أنى تصلح بيننا؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون؟ وَهَذَا جَدُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمُ وَالْقَادِرُ قَدْ أَظْهَرَا اعْتِقَادَهُمَا لِلنَّاسِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسَّلَفِ، وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْخُرَاسَانِيُّونَ، وَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فِي الدَّوَاوِينِ كُلِّهَا، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا جَرَى، فَجَاءَ الْجَوَابُ بِشُكْرِ الْجَمَاعَةِ وَخُصُوصًا الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ الخليفة أبا جعفر إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفَى ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ فِي النَّاسِ بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَالسَّوَادِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الشَّامَ كَذَلِكَ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُزِيلَتِ الْمُنْكَرَاتُ وَالْبَغَايَا بِبَغْدَادَ، وَهَرَبَ الْفُسَّاقُ مِنْهَا. وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مِرْدَاسٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ

<<  <  ج: ص:  >  >>