مطرقى الرءوس، كأنما على رءوسهم الطير، حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكى وهذا يئن وهذا يزعق، قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكى حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال:
ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم. قال البيهقي: يحتمل أنه كرّه له صحبتهم لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهدا، فإنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع. قلت: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازيّ على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال: هذا بدعة. ثم قال للرجل الّذي جاء بالكتاب:
عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة. وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب.
وقال: الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر. وقال: الفقر أشرف من الغنى، فان الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر. وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئا. وكان يقول: على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف. وكان يحب التقلل من الدنيا لأجل خفة الحساب. وقال إبراهيم قال رجل لأحمد: هذا العلم تعلمته لله؟ فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلى شيء فجمعته. وفي رواية أنه قال: أما لله فعزيز، ولكن حبب إلى شيء فجمعته.
وروى البيهقي أن رجلا جاء إلى الإمام أحمد فقال: إن أمى زمنة مقعدة منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعو لها، فكأنه غضب من ذلك وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها. ثم دعا الله ﷿ لها. فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبنى الله العافية. وروى أن سائلا سأل فأعطاه الامام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال:
هبنى هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوى درهما. فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال: إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها. ثم قال البيهقي ﵀:
[باب ذكر ما جاء في محنة أبى عبد الله أحمد بن حنبل]
في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من