قد أسلفنا فيما تقدم أن اليمن كانت لحمير، وكانت ملوكهم يسمون التبابعة، وتكلمنا في أيام الجاهلية على طرف صالح من هذا، ثم إن ملك الحبشة بعث أميرين من قواده، وهما أبرهة الأشرم، وارياط، فتملكا له اليمن من حمير، وصار ملكها للحبشة، ثم اختلف هذان الأميران، فقتل ارياط واستقل أبرهة بالنيابة، وبنى كنيسة سماها العانس، لارتفاعها، وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلما بلغه ذلك حلف ليخربن بيت مكة، فسار إليه ومعه الجنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه * وقد تقدم بسط ذلك في موضعه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال وشر خيبة، وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة، فلما وصل إلى صنعاء انصدع صدره فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم بن أبرهة ثم أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال: إنه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، ثم ثار سيف بن ذي يزن الحميري، فذهب إلى قيصر ملك الروم يستنصره عليهم، فأبى ذلك عليه - لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النصرانية - فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به، وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدم بسط بعضها، ثم اتفق الحال على أن بعث معه ممن بالسجون طائفة تقدمهم رجل منهم يقال له: وهرز، فاستنقذ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئة من كل جانب، غير أن لكسرى نوابا على البلاد، فاستمر الحال على ذلك حتى بعث رسول الله ﷺ، فأقام بمكة ما أقام، ثم هاجر إلى المدينة فلما كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له،
فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلّم تسلّم، إلى آخره، فلما جاءه الكتاب قال: ما هذا؟ قالوا: هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي، فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى، غضب كسرى غضبا شديدا، وأخذ الكتاب فمزقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن - وكان اسمه باذام - أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميرين إلى هذا الرجل الّذي بجزيرة العرب، الّذي يزعم أنه نبي، فابعثه إليّ في جامعة، فلما جاء الكتاب إلى باذام، بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال: اذهبا الى هذا الرجل، فانظرا ما هو، فأن كان كاذبا فخذاه في جامعة حتى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إلى فأخبراني ما هو، حتى انظر في أمره، فقدما على رسول الله ﷺ الى المدينة، فوجداه على أسدّ الأحوال وأرشدها، ورأيا منه أمورا عجيبة، يطول ذكرها، ومكثا عنده