بعد ذلك يبيع الكوامخ، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث. فاتفق أن هاشما مرض فجاءه أبو شيبة قاضى واسط عائدا له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال: يا بنى أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي؟ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث. كان هاشم بن سادات العلماء، وحدث عنه مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل وخلق غير هؤلاء، وكان من الصلحاء العباد، ومكث يصلى الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين.
[ويحيى بن زكريا]
ابن أبى زائدة قاضى المدائن، كان من الأئمة الثقات. ويونس بن حبيب أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن أبى عمرو بن العلاء وغيره، وأخذ عنه الكسائي والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والأدب والفصحاء من الحاضرين والغرباء، توفى في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.
[ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة]
فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الّذي عليهم، وولى رجلا يضرب الناس على ذلك ويحبسهم، وولى على أطراف البلاد، وعزل وولى وقطع ووصل. وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله شهرزور. وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي.
[وفيها توفى]
[أحمد بن الرشيد]
كان زاهدا عابدا قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلا فيه، وليس يملك إلا مروا وزنبيلا - أي مجرفة وقفة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقوت بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط. ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة.
وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتما من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه. فلما صارت الخلافة إليه لم تأتى ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية. هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين فمرضه عنده، فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل: ذاهب بهذا إلى الرشيد وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم [حيث لا ينفع نادما ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فان ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى](١).