فقال: على م انتصب رجلا؟ فقلت: لأنه معمول المصدر بمصابكم فَأَخَذَ الْيَزِيدِيُّ يُعَارِضُهُ فَعَلَاهُ الْمَازِنِيُّ بِالْحُجَّةِ فَأَطْلَقَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَلْفَ دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ مكرما. فعوضه الله عن المائة الدينار- لما تركها للَّه سبحانه ولم يمكن الّذي مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ القرآن- ألف دينار عشرة أمثالها. روى الْمُبَرِّدُ عَنْهُ قَالَ: أَقَرَأْتُ رَجُلًا كِتَابَ سِيبَوَيْهِ إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره قَالَ لِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَجَزَاكَ الله خيرا، وأما أنا فو الله مَا فَهِمْتُ مِنْهُ حَرْفًا. تُوُفِّيَ الْمَازِنِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ.
[ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين]
فيها أَغْزَى الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا التُّرْكِيَّ الصَّائِفَةَ لِقِتَالِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَصَدَ بِلَادَ الشَّامِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَهَّزَ الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا وَجَهَّزَ مَعَهُ نفقات وعددا كَثِيرَةٍ، وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ الرُّومِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّغْرِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَتَبَ لَهُ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نَائِبِ الْعِرَاقِ كِتَابًا عَظِيمًا فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْرِيضِ لِلنَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أَنْفَسَهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَا عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حل من بيعتهما، وذلك بعد ما تَهَدَّدَهُمَا أَخُوهُمَا الْمُنْتَصِرُ وَتَوَعَّدَهُمَا بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ تَوْلِيَةُ ابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِشَارَةِ أُمَرَاءِ الْأَتْرَاكِ بِذَلِكَ. وَخَطَبَ بِذَلِكَ عَلَى رءوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَيَخْطُبُوا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَيَتَوَالَى عَلَى مَحَالِّ الْكِتَابَةِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمَا الْمُلْكَ وَيَجْعَلَهُ فِي ولده، وَالْأَقْدَارُ تُكَذِّبُهُ وَتُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَتْ لَهُ علة كان فيها حتفه، وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ سُلَّمًا فَبَلَغَ إِلَى آخَرِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ درجة. فقصّها على بعض المعبرين فقال: تلى خمسا وعشرين سنة الْخِلَافَةَ، وَإِذَا هِيَ مُدَّةُ عُمْرِهِ قَدِ اسْتَكْمَلَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ يَوْمًا فَإِذَا هُوَ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْ بُكَائِهِ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَبِي الْمُتَوَكِّلَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكَ يَا مُحَمَّدُ قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي وَغَصَبْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لا أمتعت بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى النَّارِ. قَالَ: فَمَا أَمْلِكُ عَيْنِي وَلَا جزعي. فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغزون النَّاسَ وَيَفْتِنُونَهُمْ: هَذِهِ رُؤْيَا وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ، قم بِنَا إِلَى الشَّرَابِ لِيَذْهَبَ هَمُّكَ وَحُزْنُكَ. فَأَمَرَ بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه فأخذه فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْهِمَّةِ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ مَكْسُورًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي علته التي كان فيها هلاكه، فقيل دَاءٌ فِي رَأْسِهِ فَقُطِّرَ فِي أُذُنِهِ دُهْنٌ فلما وصل