للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إمام عالم بارع. لم يكن في عصره، بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه، ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغنى، والأخرى سنة سبع وستين، وحج في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الامام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات، وقد قال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله وليا، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفى العماد استقل هو بالوظيفة، فان غاب صلى عنه أبو سليمان ابن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغنى، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعى بالرصيف وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه، وكان منزله الأصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ: خذ الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه وألقى العمامة.

وهذا يدل على ذكاء مفرط واستخصار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص عمامته من يده بتلطف.

وله مصنفات عديدة مشهورة، منها المغنى في شرح مختصر الخرقى في عشرة مجلدات، والشافي في مجلدين والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له أولاد ذكور وإناث، فلما كان حيا ماتوا في حياته. ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى:

لا تجلسن بباب من … يأبى عليك وصول داره

وتقول حاجاتي إليه … يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها … تقضى ورب الدار كاره

ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضى عنه قوله:

أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا … سوى القبر، إني إن فعلت لأحمق

يخبرني شيبى بأنى ميت … وشيكا، فينعانى إلى ويصدق

يخرق عمري كل يوم وليلة … فهل مستطاع رقع ما يتخرق

<<  <  ج: ص:  >  >>