للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال على بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.

وقال بعضهم: رأيته يبكى حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ﴾ الآية، ويقرأ ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ﴾ ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وقال أبو بكر الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر:

فما تزود مما كان يجمعه … سوى حنوط غداة البين في خرق

وغير نفحة أعواد تشبّ له … وقلّ ذلك من زاد لمنطلق

بأيما بلد كانت منيته … إن لا يسر طائعا في قصدها يسق

ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد:

من كان حين تصيب الشمس جبهته … أو الغبار يخاف الشين والشعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشنة … فسوف يسكن يوما راغما جدثا

في قعر مظلمة غبراء موحشة … يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا

تجهزى بجهاز تبلغين به … يا نفس قبل الردى لم تخلقى عبثا

[هذه الأبيات ذكرها الآجري في أدب النفوس بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبى الدنيا حدثني محمد بن صالح القرشي أخبرنى عمر بن الخطاب الأزدي حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الأعلى بن أبى عمرة قال:

أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا إلى اليون طاغية الروم يدعوه إلى الإسلام، فقال له عبد الأعلى: يا أمير المؤمنين! ائذن لي في بعض بنى يخرج معى - وكان عبد الأعلى له عشرة من الذكور - فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك. فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشى مشية كرهتها منه ومقته عليها، وبلغني أنه يقول الشعر. فقال عبد الأعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتينى وخذ معك غيره، فراح عبد الأعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم:

تجهزى بجهاز تبلغين به … يا نفس قبل الردى لم تخلقى عبثا

ولا تكدى لمن يبقى وتفتقرى … إن الردى وارث الباقي وما ورثا

وأخشى حوادث صرف الدهر في مهل … واستيقظى لا تكوني كالذي بحثا

عن مدية كان فيها قطع مدته … فوافت الحرث موفورا كما حرثا

<<  <  ج: ص:  >  >>