للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال فاستحيى منه المنصور وأطلقه. فما رأى له وجها إلى الحول [وقال لابنه لما ولاه العهد: يا بنى ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله] (١) وقال أيضا: يا بنى ليس العاقل من يحتال للأمر الّذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الّذي يحتال للأمر الّذي غشيه حتى لا يقع فيه. وقال المنصور: يا بنى لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فان الزهري قال: علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة. وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا، وقد قيل له يوما: يا أمير المؤمنين هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد، قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله. فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث، فقال: لستم بهم، إنما هو الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن. فهؤلاء نقلة الحديث.

وقال يوما لابنه المهدي: كم عندك من دابة؟ فقال لا أدرى. فقال: هذا هو التقصير، فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بنى. وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي: دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي: كم عندك من المال يا خالصة؟ فقلت ألف درهم. فقال: ضعى يدك على رأسي واحلفى، فقلت: عندي عشرة آلاف دينار. قال: اذهبي فاحمليها إلى قالت: فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع زوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال: ويحك! إنه ليس به وجع ولكنى سألته بالأمس مالا فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به. فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهديّ فقال له: تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة؟ وقال المنصور لخازنة: إذا علمت بمجيء المهدي فائتنى بخلقان الثياب قبل أن يجيء، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، فجعل المهدي يضحك، فقال: يا بنى من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد. فقال المهدي: عليّ كسوة أمير المؤمنين وعياله، فقال: دونك فافعل.

وذكر ابن جرير عن الهيثم أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم. وفي هذا اليوم فرق في بيته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد. وقرأ بعض القراء عند المنصور ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ فقال: والله لولا أن المال حصن


(١) زيادة من المصرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>