ويركب هو في جمهور الجيش إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ خَافَ مِنْهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى العتق فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ الشَّمَالِيِّ، وَالْقَدَرُ يَقُولُ لَهُ: هذا آخر أعيادك، ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا، وأمر بانتهابه، وَطَهَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فَحَصَلَ لَهُ غَيْظٌ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ- وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ سَجِيَّتِهِ- فَبَادَرَ إِلَى الْقَلْعَةِ وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ حَوَاسِّهِ وَطِبَاعِهِ، وَاحْتَبَسَ أُسْبُوعًا عَنِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِمَا هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجودة، سرورا بذلك، فانعكست تِلْكَ الْأَفْرَاحُ بِالْأَتْرَاحِ، وَنَسَخَ الْجِدُّ ذَلِكَ الْمِزَاحَ، وَحَصَلَتْ لِلْمَلِكِ خَوَانِيقُ فِي حَلْقِهِ مَنَعَتْهُ مِنْ النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ إِلَى رَحْمَةِ الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلى عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه، ويطيب ويتبرك.
كل مار، فيقول قبر نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ، لِمَا حَصَلَ لَهُ فِي حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له القسيم ابن القسيم. وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَهَا أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد:
عجبت من الموت لما أتى ... إِلَى مَلِكٍ فِي سَجَايَا مَلَكْ
وَكَيْفَ ثَوَى الفلك المستدير ... في الأرض وسط فلك
وَقَالَ حَسَّانُ الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْعَرْقَلَةِ فِي مَدْرَسَةِ نور الدين لما دفن بها رحمه الله تعالى.