للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحديث وتفقه بابن الزاغونى، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وأخذ اللغة عن أبى منصور الجواليقيّ، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان، وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بنى آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره، وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:

ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا … وأكابد النهج العسير الأطولا

تجرى بى الآمال في حلباته … جرى السعيد مدى ما أملا

أفضى بى التوفيق فيه إلى الّذي … أعيا سواي توصلا وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصا ناطقا … وسألته هل زار مثلي؟ قال: لا

ومن شعره وقيل هو لغيره:

إذا قنعت بميسور من القوت … بقيت في الناس حرا غير ممقوت

ياقوت يومى إذا ما در حلقك لي … فلست آسى على در وياقوت

وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا، وله كتاب سماه لقط الجمان في كان وكان، ومن لطائف كلامه

قوله في الحديث «أعمار أمتى ما بين الستين إلى السبعين» إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الاقامة قيل لهم حثوا المطي، وقال له رجل أيما أفضل؟ أجلس أسبح أو أستغفر؟ فقال الثوب الوسخ أحوج إلى البخور. وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال: هذا طين سطحه في كانون. والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتّق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين. وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس. قال فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء.

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رءوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الامام أحمد، وكان يوما

<<  <  ج: ص:  >  >>