فوبخه توبيخا مفضحا، ولامه لوما شديدا، ثم ضربه ضربا مبرحا، واعتقله مهانا عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث، والدواب وغير ذلك، مما لا يحد ولا يوصف. ثم اتفق رأى البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلى الندوى، وهو من بنى عم قريش بن بدران، وكان رجلا فيه دين وله مروأة. فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئا، وسيّره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولا كاملا، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله ﷿ بما سنح لي، ثم قلت: اللهمّ أعدنى إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدى، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الانس زاهرا، وربع القرب عامرا، وفلفل العزا وبرج الجفا، قال: فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول: نعم نعم، فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فقلت: إنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه، وكان كذلك، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، وقد قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مقامه بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله فمنه:
ساءت ظنوني فيمن كنت آمله … ولم يجل ذكر من والبيت في خلدي
تعلموا من صروف الدهر كلهم … فما أرى أحدا يحنو على أحد
فما أرى من الأيام إلا موعدا … فمتى أرى ظفري بذاك الموعد
يومى يمر وكلما قضيته … عللت نفسي بالحديث إلى غد
أقبح بنفس تستريح إلى المنى … وعلى مطامعها تروح وتغتدي
وأما البساسيري وما أعتمده في بغداد: فأنه ركب يوم عيد الأضحى وألبس الخطباء والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه الألوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور، والأذان بسائر العراق بحي على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاما عظيما، وغرق خلقا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل. ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملا أحمر وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو