وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف، فأمنهم وقل أصحاب ابن الزبير جدا، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله ابن الزبير، فأخذا لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما، ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بنى أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بنى أمية، وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق فما وهن الدين وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فدنا منها فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلى الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكنى أحببت أن أعلم رأيك فزدتينى بصيرة مع بصيرتي، فانظرى يا أماه فانى مقتول في يومى هذا فلا يشتد حزنك، وسلمى لأمر الله، فان ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضى ربى ﷿، اللهمّ إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهمّ أنت أعلم بى منى ومن غيري، ولكنى أقول ذلك تعزية لأمى لتسلو عنى، فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائى فيك حسنا، إن تقدمتنى أو تقدمتك، ففي نفسي اخرج يا بنى حتى انظر ما يصير إليه أمرك، فقال جزاك الله يا أمه خيرا فلا تدعى الدعاء قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدا لمن قتل على باطل فلقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهمّ ارحم طول ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة، ومكة، وبره بأبيه وبى، اللهمّ إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين. ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه واعتنقها ليودعها - وكانت قد أضرت في آخر عمرها - فوجدته لابسا درعا من حديد فقالت: يا بنى ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة!! فقال:
يا أماه إنما لبسته لأطيب خاطرك وأسكن قلبك به، فقالت: لا يا بنى ولكن انزعه فنزعه وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد وهي تقول: شمر ثيابك، وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره، بأبيه الزبير، وجده أبى بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله ﷺ وترجيه القدوم عليهما إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها ﵄ وعن أبيه وأبيها قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام وهناك خمسمائة فارس وراجل فيحمل عليهم فيتفرقون