للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد، وعزم السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دَكًّا لِتَنْحَسِمَ مَادَّةُ النَّصَارَى مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فقيل [له] إنهم لَا يَتْرُكُونَ الْحَجَّ إِلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَلَوْ كانت قاعا صفصفا، وقد فتح هذه البلد قبلك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَرَكَ هَذِهِ الكنيسة بأيديهم، ولك فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ. فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا عَلَى حالتها تأسيا بعمر رضى الله عنه، ولم يترك من النصارى فيها سِوَى أَرْبَعَةٍ يَخْدُمُونَهَا، وَحَالَ بَيْنَ النَّصَارَى وَبَيْنَهَا، وَهَدَمَ الْمَقَابِرَ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ عِنْدَ بَابِ الرحمة، وعفا آثَارَهَا، وَهَدَمَ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْقِبَابِ.

وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وَانْطَلَقَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى وَطَنِهِ: وَعَادَ إِلَى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه ومننه

[فصل]

فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انْفَصَلَ عَنْهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ قاصدا مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ رَجُلٌ من تجار الفرنج يُقَالُ لَهُ الْمَرْكِيسُ، فَحَصَّنَهَا وَضَبَطَ أَمَرَهَا وَحَفَرَ حولها خندقا من البحر إلى البحر، فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بِهَا بَرًّا وَبَحْرًا، فَعَدَتِ الْفِرِنْجُ فِي بَعْضِ الليالي على خمس شوانى من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون وأجمعين حزنا وتأسفا، وقد دخل عليهم فصل الْبَرْدُ وَقَلَّتِ الْأَزْوَادُ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ وَكَلَّ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُحَاصَرَاتِ، فَسَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِمْ إلى دمشق حَتَّى يَسْتَرِيحُوا ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دِمَشْقَ وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَكَّا، وَتَفَرَّقَتِ العساكر إلى بلادها. وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى عَكَّا نَزَلَ بِقَلْعَتِهَا وَأَسْكَنَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ بُرْجُ الدَّاوِيَّةِ، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ مَدِينَةِ عَكَّا خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهَا، فَكَادَ وَلَمْ يَفْعَلْ وَلَيْتَهُ فَعَلَ، بَلْ وَكَّلَ بِعِمَارَتِهَا وَتَجْدِيدِ مَحَاسِنِهَا بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ التَّقَوِيَّ، وَوَقَفَ دار الاستثارية بصفين عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَجَعَلَ دَارَ الْأَسْقُفِ مَارَسْتَانًا وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْقَافًا دَارَّةً، وَوَلَّى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبى النجيب.

ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأرسل إليه الملوك بالتهانى والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ بَعَثَ إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كَانَ وَضِيعًا عِنْدَهُمْ، لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة. فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع

<<  <  ج: ص:  >  >>