سارت بفصاحتها الركبان، وكاد يربو فيها على سحبان، ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة وسمع الحديث واشتغل باللغة والنحو، وصنف في ذلك كله، وفاق أهل زمانه، وبرز على أقرانه، وأقام ببغداد وعمل صناعة الإنشاء مع الكتاب في باب الخليفة، ولم يكن ممن تنكر بديهته ولا تتعكر فكرته وقريحته. قال ابن الجوزي: صنف وقرأ الأدب واللغة، وفاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة والفصاحة، وحسن العبارة، وصنف المقامات المعروفة التي من تأملها عرف ذكاء منشئها، وقدره وفصاحته، وعلمه. توفى في هذه السنة بالبصرة. وقد قيل إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لا وجود لهما، وإنما جعل هذه المقامات من باب الأمثال، ومنهم من يقول أبو زيد بن سلام السروجي كان له وجود، وكان فاضلا، وله علم ومعرفة باللغة فالله أعلم. وذكر ابن خلكان أن أبا زيد كان اسمه المطهر بن سلام، وكان بصريا فاضلا في النحو واللغة، وكان يشتغل عليه الحريري بالبصرة، وأما الحارث بن همام فإنه غنى بنفسه، لما جاء في الحديث كلكم حارث وكلكم همام. كذا قال ابن خلكان. وإنما اللفظ المحفوظ «أصدق الأسماء حارث وهمام» لأن كل أحد إما حارث وهو الفاعل، أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر، وذكر أن أول مقامة عملها الثامنة والأربعون وهي الحرامية، وكان سببها أنه دخل عليهم في مسجد البصرة رجل ذو طمرين فصيح اللسان، فاستسموه فقال أبو زيد السروجي، فعمل فيه هذه المقامة، فأشار عليه وزير الخليفة المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو على الحسن بن أبى المعز بن صدقة، أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة. قال ابن خلكان: كذا رأيته في نسخة بخط المصنف، على حاشيتها، وهو أصح من قول من قال إنه الوزير شرف الدين أبو نصر أنوشروان بن محمد بن خالد بن محمد القاشاني، وهو وزير المسترشد أيضا، ويقال إن الحريري كان قد عملها أربعين مقامة، فلما قدم بغداد ولم يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها، فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقامة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شيء، فلما عاد إلى بلده عمل عشرة أخرى فأتمها خمسين مقامة، وقد قال فيه أبو القاسم على بن أفلح الشاعر، وكان من جملة المكذبين له فيها:
شيخ لنا من ربيعة الفرس … ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما … رماه وسط الديوان بالخرس
ومعنى قوله بالمشان هو مكان بالبصرة، وكان الحريري صدر ديوان المشان، ويقال إنه كان ذميم الخلق، فاتفق أن رجلا رحل إليه فلما رآه ازدراه ففهم الحريري ذلك فأنشأ يقول:
ما أنت أول سار غره قمر … ورائدا أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل … مثل المعيدي فاسمع بى ولا ترني