قال البطال فسألني بعض ولاة بنى أمية عن أعجب ما كان من أمرى في مغازي فيهم، فقلت له:
خرجت في سرية ليلا فدفعنا إلى قرية فقلت لأصحابى: ارخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بشيء حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا وافترقوا في أزقتها، فدفعت في أناس من أصحابى إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يا بطال، قال: فأخذته.
وروى محمد بن عائذ عن الوليد بن مسلم عن أبى مروان الأنطاكي عن البطال قال: انفردت مرة ليس معى أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها شعير، ومعى منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلى ألقى أحدا منفردا، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت وأكلت من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت منه مرارا، فخفت أن أضعف من كثرة الاسهال، فركبت فرسي والاسهال مستمر على حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب، وأفرط بى الاسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت بعنان الفرس ونمت على وجهي لا أدرى أين يسير الفرس بى، فلم أشعر إلا بقرع نعاله على بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء جميلة جدا، فجعلت تقول بلسانها: أنزلنه، فأنزلننى فغسلن عنى ثيابي وسرجي وفرسي، ووضعننى على سرير وعملن لي طعاما وشرابا، فمكثت يوما وليلة مستويا، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلى حالي، فبينا أنا كذلك إذ أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق على الباب الّذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه رجل وله فرس، فهم بالهجوم على فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له: إن فتح عليه الباب لم أقض حاجته، فثناه ذلك عن الهجوم على، وأقام البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم ركب فرسه وركب معه أصحابه وانطلق. قال البطال: فنهضت في أثرهم فهمت أن تمنعني خوفا على منهم فلم أقبل، وسقت حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطا على فرسي، ورجعت إلى الدير، فخرجن إلى ووقفن بين يدي، فقلت: اركبن، فركبن ما هنالك من الدواب وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلنى ما شئت منهن، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي. والبطريق في لغة الروم عبارة عن الأمير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقا كبيرا فيهم - يعنى تلك المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه.
وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم، فغاب عنه خبرها فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له وسار حتى وصل عمّورية، فطرق بابها ليلا