وتفرد بمسائل حفظت عنه. قال الخطيب: وبلغني عن الشيخ أبى حامد أحمد بن أبى طاهر الفقيه الأسفراييني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا، أو كما قال. وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبى بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة. وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ - ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة: لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه. قلت: وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الّذي اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا. وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الّذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل محمد بن نصر، فرزقهم الله. وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء، فقيل له: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده. وقال له: سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي. فقال لا بد أن تسألنى حاجة أو شيئا. فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع. فأمر الخليفة بذلك. وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان. ومن شعره:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي … وأستغنى فيستغني صديقي
حيائى حافظ لي ماء وجهي … ورفقي في مطالبتى رفيقي
ولو أتى سمحت ببذل وجهي … لكنت إلى الغنى سهل الطريق
ومن شعره أيضا
خلقان لا أرى طريقهما … بطر الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا … وإذا افتقرت فته على الدهر
وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة.
وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله. بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبى بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم