ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماه فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين، فأجابه إلى ذلك، فسار إليهم فحذّرهم بأس صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان، فكتب إليهم كتابا بليغا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف، وعدم الائتلاف، فردوا عليه أسوأ جواب، فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق، فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبى طاهر بن أبى المكارم حمزة بن زاهر الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل، وعجز أهل البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر، فأرسلوا أولا إلى شيبان صاحب الحسبة فأرسل نفرا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه فلم يظفر منه بشيء، بل قتلوا بعض الأمراء، ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم، فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجى، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر، وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين، بل قصد لحمص ليأخذها فركب إليه السلطان الناصر، وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا، فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه راجعا إلى بلده، ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه، فلما فصل الناصر إلى حمص لم يكن قد أخذ قلعتها فتصدى لأخذها، فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسرا وملكها قهرا، ثم كر راجعا إلى حلب، فأناله الله في هذه الكرّة ما طلب، فلما نزل بها كتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا فائقا رائقا، على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه: «فإذا قضى التسليم حق اللقاء فاستدعى الإخلاص جهد الدعا، فليعد وليعد حوادث ما كان حديثا يفترى، وحواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ما قد جرى، ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدرا، وليوضح الأحوال المستبشرة فان الله لا يعبد سرا.
ومن العجائب أن تسير غرائب … في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى … والماء فوق ظهورها محمول