أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا عمار بن أبى عمار عن ابن عباس قال أقام النبي ﷺ بمكة خمس عشرة سنة سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت وثماني سنين يوحى اليه وأقام بالمدينة عشر سنين.
قال أبو شامة: وقد كان رسول الله ﷺ يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك ما
في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله ﷺ:«إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» انتهى كلامه.
وانما كان رسول الله ﷺ يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة ايحاء الله اليه صلوات الله وسلامه عليه. وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عبد الملك بن عبد الله بن ابى سفيان بن العلاء بن حارثة - قال: وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال: وكان رسول الله ﷺ يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسّك فيه. وكان من نسّك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة. وهكذا روى عن وهب بن كيسان انه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش أنهم يجاورون في حراء للعبادة ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه … وراق ليرقى في حراء ونازل
هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيليّ وأبو شامة وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي ﵏، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم.
وحراء يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية والغار في تلك الحنية وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج
فلا ورب الآمنات القطّن … وربّ ركن من حراء منحني
وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البنية (١) فيما قاله السهيليّ الدخول في الحنث ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء كحنث أي خرج من الحنث وتحوب وتحرج وتأثم وتهجد هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة وتنجس وتقذر أوردها أبو شامة. وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد. فقال: لا أعرف هذا انما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم ﵇. قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث
(١) كذا في الحلبية وفي المصرية: الثنية وعبارة السهيليّ: والتحنث بالمثلثة بالثاء المثلثة.