وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وانه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا ﵇ وانه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه وانها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا ﵇ وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبانه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات فتعجبت من وجود ولد من غير والد لأنها لا زوج لها ولا هي ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة بان الله قادر على ما يشاء ﴿إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فاستكانت لذلك وانابت وسلمت لأمر الله وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها فان الناس يتكلمون فيها بسببه لانهم لا يعلمون حقيقة الأمر وانما ينظرون الى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل وكانت انما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شئونها و ﴿اِنْتَبَذَتْ﴾ أي انفردت وحدها شرقى المسجد الأقصى إذ بعث الله اليها الروح الأمين جبريل ﵇ ﴿فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا﴾ فلما رأته ﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾. قال أبو العالية علمت أن التقى ذو نهية وهذا يرد قول من زعم انه كان في بنى إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقى فان هذا قول باطل بلا دليل وهو من أسخف الأقوال ﴿قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ أي خاطبها الملك قائلا انما أنا رسول ربك لست ببشر ولكنى ملك بعثني الله إليك ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا﴾ أي ولدا زكيا ﴿قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة ﴿قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلا ﴿كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ﴾ أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي وهذا سهل عليه ويسير لديه فإنه على ما يشاء قدير. وقوله ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ﴾ أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا على كمال قدرتنا على أنواع الخلق فإنه تعالى خلق ادم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله ﴿وَرَحْمَةً مِنّا﴾ أي نرحم به العباد بان يدعوهم الى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والاضداد والأنداد. وقوله ﴿وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا﴾. يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعنى ان هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختاره ابن جرير ولم يحك سواه والله أعلم. ويحتمل أن يكون قوله ﴿وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا﴾ كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى ﴿وَمَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا﴾. فذكر غير واحد من السلف ان جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت