للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولى قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله:

سبحان من أصبحت مشيئته … جارية في الورى بمقدار

أغرق بغداد بالمياه كما … أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة: والصواب أن يقال:

في سنة أغرق العراق وقد … أحرق أرض الحجاز بالنار

وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعنى من هذه السنة - كنت جالسا بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صحبة قاصد يعرف بقيماز العلويّ الحسنى المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول زلزلت يوم الثلاثاء ثانى جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمى بزبد كأنه رءوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوما. قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمى؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها. وأخرج قيماز المذكور شيئا من الصخر المحترق وهو كالفحم لونا وخفة.

قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضى المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رءوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع. وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوما وإلى الآن.

قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الامعانى شيخ حرم المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله ﷿ قبل الموت. وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الّذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين.

<<  <  ج: ص:  >  >>