وأمها ثوبا فتحادثنا إلى الغروب، قال كثير: فرجعت حتى أنخت بهم. فقال أبو بثينة: ما ردك يا ابن أخى؟ فقلت: أبيات قلتها فرجعت لأعرضها عليك. فقال: وما هي؟ فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الحجاب: -
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي … إليك رسولا والرسول موكل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا … وأن تأمرينى ما الّذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني … بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
فلما كان الليل أقبلت بثينة إلى المكان الّذي واعدته إليه، وجاء جميل وكنت معهم فما رأيت ليلة أعجب منها ولا أحسن منادمات، وانفض ذلك المجلس وما أدرى أيهما أفهم لما في ضمير صاحبه منه.
وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت فقال له:
ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن قط، ولم يسرق ولم يقتل النفس وهو يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا؟ قال: أنا، فقلت الله: ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء منذ عشرين سنة، ببثينة. فقال: لا نالتنى شفاعة محمد ﷺ، وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها بريبة، قال: فما برحنا حتى مات. قلت: كانت وفاته بمصر لأنه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال: شديدا، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده فوعده أن يجمع بينه وبينها فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين ﵀ آمين.
وقد ذكر الأصمعي عن رجل أن جميلا قال له: هل أنت مبلغ عنى رسالة إلى حي بثينة ولك ما عندي؟ قال نعم! قال: إذا أنامت فاركب ناقتي والبس حلتى هذه وأمره أن يقول أبياتا منها قوله
قومي بثينة فاندبى بعويل … وابكى خليلا دون كل خليل
فلما انتهى إلى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدرسرى في جنة وهي تتثنى في مرطها فقالت له: ويحك إن كنت صادقا فقد قتلتني، وإن كنت كاذبا فقد فضحتني. فقلت: بلى والله صادق وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتا ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها: قال الرجل: فما رأيت أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق: لو تركت الشعر وحفظت القرآن؟
فقال: هذا أنس بن مالك يخبرني عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن من الشعر لحكمة»