قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: تبيّن بما ذُكر من الأحاديث، وأقوال أهل العلم، أن البكاء على الميت مباح مطلقا، قبل الموت، وبعده، إذا خلا عن النياحة، وشَقِّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونحو ذلك، مما ورد النهي عنه، وستأتي الأحاديث في ذلك في الأبواب التالية، إن شاء اللَّه تعالى.
ومنه يؤخذ الجمع بين الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وإباحته.
وحاصله أن أحاديث النهي عن البكاء مطلقًا، ومقيّدًا بما بعد الموت تحمل على البكاء الذي يفضي إلى ما لا يجوز، من النوح، والصُّرَاخ، وغير ذلك، وأحاديث الإباحة تحمل على مجرّد البكاء الذي هو دمع العين، وما لا يمكن دفعه من الصوت، وقد أشار إلى هذا الجمع قوله - صلى اللَّه عليه وسلم - في الحديث المتقدّم:"ولكن نهيت عن صوتين … ". وقوله في حديث ابن عباس المتقدّم:"إنه مهما كان من العين والقلب، فمن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، ومن الرحمة … ". وقوله في حديث ابن عمر السابق:"إن اللَّه لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب … ". فيكون معنى قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا يبكين على هالك بعد اليوم"، وقوله:"فإذا وجب فلا تبكين باكية" النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرّمه الشارع، هذا هو الجمع الصحيح.
وقيل: إنه يُجمَع بأن الإذن بالبكاء قبل الموت، والنهي عنه بعده. ويرده ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - المذكور في الباب، من قصّة زجر عمر للباكيات. وحديث عائشة - رضي اللَّه عنها - في قصّة موت سعد بن معاذ، وبكاء أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنه - المتقدّم، وحديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - في قصة بكاء النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - عند زيارة قبر أمه، وحديث جابر - رضي اللَّه عنه - في قصة استشهاد أبيه، وبكاء عمته عليه، وحديث ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - في قصة بكاء النساء على زينب ابنة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وكلها وقعت بعد الموت، فليُتنبّه.
وقيل: يجمع بحمل النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهة، وقد تقدّم نقله عن الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ-، لكن حمله أصحابه على كراهة التحريم.
والحاصل أن الجمع الأول هو الراجح، كما قاله العلامة الشوكاني -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى (١). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".