للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

النهي إنما وقع لأجل الإحرام، خلافا لمن قال من المالكيّة وغيرهم: إن الإحرام ينقطع بالموت، فيُصنع بالميت ما يُصنع بالحيّ. قال ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدّم على القياس. وقد قال بعض المالكية: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال، يتطرّق الاحتمال إلى منطوقها، فلا يستدلّ بمفهومها.

وقال بعض الحنفية: هذا الحديث ليس عامّا بلفظه، لأنه في شخص معيّن، ولا بمعناه، لأنه لم يقل: يبعث ملبيا لأنه محرم، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل. وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل، لأن إخباره - صلى اللَّه عليه وسلم - بأنه يُبعث ملبيا شهادة بأن حجه قُبل، وذلك غير محقّق لغيره. وتعقّبه ابن دقيق العيد بان هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام، فتعمّ كلّ محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيّب.

واعتلّ بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: ٣٩]، وبقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وليس هذا منها، فينبغي أن ينقطع عمله بالموت.

وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه، وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحيّ بعده، كغسله، والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكره.

وقال ابن المنيّر -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الحاشية": وقد قال - صلى اللَّه عليه وسلم - في الشهداء: "زمّلوهم بدمائهم" مع قوله: "واللَّه أعلم بمن يُكلم في سبيله"، فعمّم الحكم في الظاهر، بناء على ظاهر السبب، فينبغي أن يُعمّم الحكم في كلّ محرم، وبين المجاهد والمحرم جامعٌ، لأن كلاّ منهما في سبيل اللَّه. وقد اعتذر الداوديّ عن مالك، فقال: لم يبلغه هذا الحديث. وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيًا، لوجب أن يكمّل به المناسك، ولا قائل به.

وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النصّ، ولا سيّما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام، كاستبقاء دم الشهيد انتهى ما قاله في "الفتح" (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أكثر هذه الأقوال آراء ساقطة، لأنها في مقابلة النصّ، واحتجاج على المنقول بالمعقول، وأحسن ما يُعتذر به عن الأئمة كمالك، ونحوه هو ما قاله الداوديّ، وهو أنه لم يبلغهم النصّ، وإلا لما خالفوه مع وضوحه.


(١) - "فتح" ج ٣ ص ٤٧٨.