تاسعها: الوقف. عاشرها: الامساك. قال الحافظ: وفي الفرق بينهما دقّة انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي هو قول من قال: إنهم في الجنّة، كما هو ظاهر مذهب البخاريّ، وذكر النوويّ أنه المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، للآية المذكورة. فإن قال قائل: إنها في عذاب الدنيا. قلنا: اللفظ عامّ، فلا ينفي دخول عذاب الآخرة.
ومن الحجج لهذا القول أيضًا قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الملك: ٨ - ٩]، فهذا دليل على أن كلّ فوج يُلقى في النار لا بدّ وأن يكونوا قد جاءهم النذير، وكذّبوه، وهذا ممتنع في حقّ الأطفال. ولقوله تعالى لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: ٨٥]؛ لأنه إذا امتلأت جهنم منه، ومن أتباعه لم يبق فيها موضع لغيرهم.
وبالجملة فاللَّه تعالى لا يعذّب أحدًا إلا بذنبه، فالنار دار عدله لا يدخلها أحد إلا بعمل، وأما الجنة، فدار فضله، يدخلها بغير عمل، ودهذا ينشىء اللَّه تعالى للفضل الذي يبقى فيها أقوامّا يسكنهم فضلها.
ومن الحجج أيضًا حديثُ سمرة - رضي اللَّه عنه - المتقدّم في قصة رؤيا النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - إبراهيم - عليه السلام -، وحوله الولدان، وحديثُ الفطرة، لأنه إذا ولد على الإسلام، ثم مات قبل أن يتغير عن فطرته، فإنه من أهل الجنة، وليس عليه من أوزار أبويه شيء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة السادسة: اختلف السلف -رحمهم اللَّه تعالى- في المراد بالفطرة في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - الذي تقدم ذكره في الشرح على أقوال كثيرة:
الأول: ما حكاه أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة عن ذلك؟ فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه عَنَى أنه لو كان يولد على الإسلام، فمات قبل أن يهوّده أبواه مثلاً لم يرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدلّ على تغير الحكم. وقد تعقّبه ابن عبد البرّ وغيره. وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحقّ أنه إخبار من النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بما وقع في نفس الأمر، ولم يُرد به إثبات أحكام الدنيا.
الثاني: أن المراد بالفطرة الإسلام، وهذا أشهر الأقوال، قال ابن عبد البرّ: وهو المعروف عند عامّة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى:
(١) - منقولًا من "الفتح" ج ٣ ص ٦١٧ - ٦١٨ بتصرّف وزيادة.