وعن مالك قال: لا يعجبني أن يُصَلَّى على أحد في المسجد، قال: ولو فَعَل ذلك فاعل ما كان ضيّقا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - على سهيل ابن بيضاء في المسجد، وصلّى عمر على أبي بكر في المسجد، وصلى صُهيب على عمر في المسجد.
وذكر عبدالرزاق، عن معمر، والثوريّ، عن هشام بن عروة، قال: رأى أبي الناس يخرجون من المسجد ليصلّوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ ما صُلِّي على أبي بكر إلا في المسجد.
فإن قيل: إن الناس الذين أنكروا على عائشة أن يُمَرَّ عليها بجنازة سعد بن أبي وقّاص في المسجد، هم الصحابة، وكبار التابعين، لا محالة؟.
قيل لهم: ما رأت عائشة إنكارهم بكبير، ورأت الحجّةَ في رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، إذ هو الأسوة الحسنة، والقدوة، وأين المذهب، والرغمة عن سنته - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولم يأت عنه ما يخالفها من وجه معروف، ولو لم تكن في هذا الباب سنّة ما وجب أن يُمنَع عن ذلك، لأن الأصل الإباحة حتى يرد المنع والحظر، فكيف، وفي إنكار ذلك جهل السنّة، والعملِ القديم بالمدينة.
ألا ترى أن قول عائشة:"ما أسرع الناس" تريد إلى إنكارها ما يعلمون، وترك السؤال عما يجهلون. وقد روي:"ما أسرع ما ينسى الناس"، وليس من نَسِيَ علمًا حجةً على من ذكره، وعَلِمَه.
وقد احتجّ بعض من تُعميه نفسه من المنتسبين إلى العلم في كراهية الصلاة على الجنائز في المسجد، لأن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - نَعَى للناس النجاشيّ، وخرج بهم إلى المصلى، فصفّهم، وكبّر أربع تكبيرات، قال: ولم يصلّ عليه في المسجد. وفي احتجاجه هذا ضروب من الإغفال:
منها: أنه لا يرى الصلاة على الغائب، وصلاة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - على النجاشيّ خصوص له عنده.
ومنها: أنه ليس في صلاة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - على الجنازة في موضع، ولا صلاة العيد في موضع دليلٌ على أن صلاة العيد، وصلاة الجنائز لا تجوز إلا في ذلك الموضع، والمسلمون في كلّ أفق لهم مصلى في العيد، يخرجون إليه، وُيصلّون فيه، ولا يقول أحد من علمائهم: إن الصلاة لا تجوز إلا فيه. وكذلك صلاتهم في المقابر على جنائزهم، ليس فيه دليل على أنه لا يُصلّى على الجنائز إلا في المقبرة، وما لم يَنْهَ عنه اللَّه سبحانه وتعالى، ورسوله - صلى اللَّه عليه وسلم -، فمباح فعله، فكيف بما فعله رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-