فلهذه الأنفس أربع دُور، كلّ دار أعظم من التي قبلها:
الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر، والضيق، والغمّ، والظلمات الثلاث.
والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها، وألفتها، واكتسبت فيها الخير والشرّ، أسباب السعادة والشقاوة.
والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار، وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
والدار الرابعة: دار القرار، وهي الجنة، أو النار، فلا دار بعدها، واللَّه ينقلها في هذه الدار طبقًا بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خُلقت لها، وهُيّئت للعمل الموصل إليها، ولها في كلّ دار من هذه الدور حكم، وشأن، غير شأن الدار الأخرى، فتبارك اللَّه، فاطرها، ومنشوّها، ومميتها، ومحييها، ومسعدها، ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها، وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علومها، وأعمالها، وقواها، وأخلاقها.
فمن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوّة كلها، والقدرة كلها، والعزّ كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدقَ أنبيائه، ورسله، وأن الذي جاءوا به هو الحقّ الذي تشهد به العقول، وتقرّ به الفِطَرُ، وما خالفه فهو الباطل، وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو كلام نفيس وبحث أنيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في حكم انتفاع الأموات بعمل الأحياء: قد حقّق هذا الموضوع الإمام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أيضًا، وطوّل النفَسَ في تحقيقه، ودونك مختصره: قال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سَعْي الأحياء أم لا؟.
وَالجواب: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء، وأهل الحديث، والتفسير:
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين، واستغفارهم له، والصدقة، والحجّ على نزاع ما الذي يصل من ثوابه، هل ثواب الإنفاق، أو ثواب العمل؟.
فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفيّة إنما يصل ثواب الإنفاق.