واختلفوا في العبادة البدنيّة؛ كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فمذهب الإمام أحمد، وجمهور السلف وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، نصّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: قيل لأبي عبد اللَّه: الرجل يعمل الشيء من الخير، من صلاة، أو صدقة، أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه، أو لأمه؟ قال: أرجو، أو قال: الميت يصل إليه كل شيء، من صدقة، أو غيرها. وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسيّ ثلاث مرّات، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقل: اللَّهمّ إن فضله لأهل المقابر. والمشهور من مذهب الشافعيّ، ومالك أن ذلك لا يصل.
وذهب بعض أهل البدع، من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة، لا دعاء، ولا غيره.
(فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته): ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدلّ على أنها منه، فإنه هو الذي تسبب إليها.
وفي "سنن ابن ماجه"، من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إن مما يَلحَق المؤمن من عمله، وحسناته بعد موته علمًا علّمه ونشره، أو ولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أكراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته، تلحقه من بعد موته".
وفي "صحيح مسلم" أيضًا من حديث جرير بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وهذا المعنى روي عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - من عدّة وجوه، صحاح، وحسان.
وفي "المسند": عن حذيفة - رضي اللَّه عنه - قال: سأل رجل على عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فأمسك القوم، ثم إن رجلاً أعطاه، فأعطى القوم، فقال النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من سنّ خيرًا، فاستُنّ به، كان له أجره، ومن أجور من تبعه، غير منتقص من أجورهم شيئًا، ومن سنّ شرّا، فاستُنّ به، كان عليه وزره، ومن أوزار من تبعه، غير منتقص من أوزارهم شيئًا".
وقد دلّ على هذا قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أوّل من سنّ القتل"، فإذا كان هذا في العذاب والعقاب، ففي الفضل والثواب أولى، وأحرى.