الرابع: أنه كان في زمن فترة، حين ينفع مجرّد التوحيد، ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥].
الخامس: أنه يجوز أنه كان متمسّكًا بشريعة فيها جواز العفو عن الكافر، وإن كان ذلك غير جائز في شرعنا، فإنه من مجوّزات العقول عند أهل السنة، وإنما منعناه في شرعنا بالشرع، وهو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} اللآية [النساء: ١١٦]. وغير ذلك من الأدلّة. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي القول بأنه تكلم بهذا الكلام في حال شدة خوفه، فعذره اللَّه تعالى في خطئه بسبب ذلك، كما عذر من أخطأ في شدة الفرح بقوله:"اللَّهم أنت عبدي، وأنا ربّك". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: قال الحافظ وليّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إن قلت: ظاهر حال هذا الرجل أنه وقع في كبيرة، وهو اليأس من رحمة اللَّه، وكان هذا خاتمة أمره، فكيف كانت هذه الكبيرة سبب المغفرة؟.
قلت: إن صرفنا اللفظ عن ظاهره، بحمل "قَدَرَ" على "قضى"، أو "ضيّق"، فليس فيه اليأس من رحمة اللَّه، فإنه يرجو الرحمة بتقدير أن لا يقضي عليه بالعذاب، أو لا يضيّق عليه على اختلاف القولين.
وإن أخذناه على ظاهره، فالجواب عن هذا أن شدّة الخوف اصطلمته، وأذهلته، حتى خرج عن حدّ التكليف، فنفعه خوفه، ونَجّاه مع التوحيد، ولم يضرّه يأسه؛ لأنه حصل له في حالة انقطع عنه فيها التكليف، وبتقدير أنه لم يصل إلى حالة أخرجته عن حيز المكلّفين، فالخوف الحاصل له كفّر عنه سيّئته التي هي اليأس من رحمة اللَّه، بل كفر عنه سيئآته التي كان يرتكبها طول عمره، وقد يشتمل الفعل الواحد على طاعة من وجه، ومعصية من وجه، فربما غلبت الطاعة، فكفّرت المعصية، وربما غلبت المعصية، فأحبطت ثواب الطاعة، وفي هذا المحلّ غلبت الطاعة، فكفّرت المعصية.
وعن الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام أنه قال فيمن سمع بآلة محرّمة، فأحدثت له أحوالاً صالحة، يحصل له إثم السماع المحرّم، وثواب الأعمال الصالحة، فإن غلب الثواب ربح، وإن غلب الإثم خسر، وإن استويا تكافأ. هذا معناه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره وليّ الدين من كلام الشيخ عز الدين ابن عبدالسلام، غير صحيح، فإن السماع المحرّم لا تحصل منه أحوال صالحة، وإن