من الرواية التي في "مسند أحمد" الصريحة في أنه كان موحّدًا، فاختلف العلماء في تأويله:
فقالت طائفة: لا يصحّ حمله على ظاهره؛ لما ذكرناه، فيكون له تأويلان:
أحدهما: أن معناه لئن قدر اللَّه عليّ العذاب، أي قضاه، يقال منه: قَدَرَ -بالتخفيف- وقَدَّر -بالتشديد- بمعنى واحد.
الثاني: أن "قدَرَ" بمعنى ضَيّق، فقوله:"لئن قدر اللَّه عليّ"، أي لئن ضيّق اللَّه، ومنه قوله تعالى:{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}[الفجر: ١٦]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء: ٨٧].
وقال الآخرون: اللفظ على ظاهره، وذكروا له تأويلات:
أحدها: أن هذا الرجل قال هذا الكلام، وهو غير ضابط لكلامه، ولا قاصد لحقيقة معناه، ومعتقد لها، بل قاله في حالةٍ غلب عليه فيها الدّهْشُ، والخوف، والجزَع الشديد، بحيث ذهب تيقّظه، وتدبّره، ما يقوله، فصار في معنى الغافل، والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرَح حين وجد راحلته:"أنت عبدي، وأنا ربّك"، فلم يُكفر بذلك، للدهش، والغلبة، والسهو. وقد ورد في غير "الصحيحين": "فلعلي أضلّ اللَّه"، أي أغيب عنه، وهذا يدلّ على أن قوله:"لئن قدر اللَّه" على ظاهره، كما ذكرنا.
الثاني: أن هذا من مجاز كلام العرب، وبديع استعمالها، يسمّونه مزج الشكّ باليقين، وسماه بعضهم تجاهل العارف، ومنه قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سبأ: ٢٤]، فصورته صورة شكّ، والمراد به اليقين.
الثالث: أن غاية ما فيه أن هذا رجل جهل صفة من صفات اللَّه تعالى، وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة، فممن كفّره بذلك محمد بن جرير الطبريّ، وقاله الشيخ أبو الحسن الأشعريّ أوّلًا. وقال آخرون: لا يكقر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان، بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعريّ، وعليه استقرّ قوله، قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا نقطع بصوابه، ويراه دينا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حقّ؛ قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات، لوجد العالم بها قليلاً.
وحكاه ابن عبد البرّ عن المتقدّمين، من العلماء، ومن سلك سبيلهم، من المتاخرين، واستدلّ عليه بأن عمر، وعمران بن حُصين، وجماعة من الصحابة، سألوا رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - عن القدَر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك، وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين انتهى.