(وَقَالَ وَكِيعٌ، وَوَهبٌ:"عُرَاةً، غُرْلاً) يعني أنه اختلف شيوخ محمود بن غيلان، فقال أبو داود الطيالسيّ: "حفاة، غُرلا" بتقديم "حفاة" على "عراة"، وقال وكيع بن الجرّاح، ووهب ابن خالد: "عراة حفاة" بالعكس، وهذا من باب الإخبار بما وقع من صيغ الأداء، والاحتياط في المحافظة على ألفاظ الشيوخ، وإلا فلا اختلاف هنا من حيث المعنى في التقديم والتأخير. واللَّه تعالى أعلم.
قال البيهقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقع في حديث أبي سعيد -يعني الذي أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبّان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جُدُد، فلبسها، وقال: سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الميت يُبعث في ثيابه التي يموت فيها". ويجمع بينهما بأن بعضهم يُحشر عاريًا، وبعضهم كاسيًا، أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكسى الأنبياء، فأول من يُكسَى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عُراة، ثم يكون أولى من يكسى إبراهيم - عليه السلام -.
وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم الذين أمر أن يُزَمَّلُوا في ثيابهم، ويدفنوا فيها، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد، فحمله على العموم.
وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل - رضي اللَّه عنه -، فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن، عن عمرو بن الأسود، قال: دفنّا أم معاذ بن جبل، فأمر بها، فكفنت في ثياب جدد، وقال: "أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يحشرون فيها".
قال: وحمله بعض أهل العلم علج العمل، وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} الآية [الأعراف: ٢٦]، وقوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدّثّر: ٤] على أحد الأقوال، وهو قول قتادة، قال: معناه وعملك فأخلصه.
ويؤكّد ذلك حديث جابر - رضي اللَّه عنه - رفعه: "يبعث كلّ عبد على ما مات عليه"، أخرجه مسلم، وحديث فَضَالة بن عُبيد: "من مات على مرتبة من هذه المراتب، بُعِث عليها يوم القيامة … " الحديث، أخرجه أحمد.
ورجّح القرطبيّ الحمل على ظاهر الخبر، ويتأيّد بقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [الأنعام: ٩٤]، وقوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الآية [الأعراف: ٢٩]، وإلى ذلك الإشارة في حديث الباب بذكر قوله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء: ١٠٤] عقب قوله: "حفاة، عراة". قال: فيحمل ما دلّ عليه حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم يدفنون بثيابهم، فيبعثون فيها تمييزًا لهم عن غيرهم.