وقد نقله ابن عبد البرّ عن أكثر العلماء، ومن حيث النظر، فإن الملابس في الدنيا أموال، ولا مال في الآخرة، مما كان في الدنيا، ولأن الذي يقي النفس مما تكره في الآخرة ثواب بحسن عملها، أو رحمة مبتدأة من اللَّه، وأما ملابس الدنيا، فلا تغني عنها شيئًا. قاله الْحَلِيميّ.
وذهب الغزاليّ إلى ظاهر حديث أبي سعيد، وأورده بزيادة -قال الحافظ-: لم أجد لها أصلاً، وهي: فإن أمتي تحشر في أكفانها، وساثر الأمم عراة. قال القرطبيّ: إن ثبت حمل على الشهداء من أمته حتى لا تتناقض الأخبار انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأولى في الجمع قول من قال: إنهم يخرجون من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون إبراهيم - عليه السلام - أول من يُكسَى، ثم يُكسون بعد ذلك، وهذا أقرب في الجمع بين هذه الأخبار. واللَّه تعالى أعلم.
("كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ") ووقع في حديث أم سلمة - رضي اللَّه عنه - عند ابن أبي الدنيا:"يحشر الناس حفاة، عراة، كما بُدِئوا". (قَالَ:"أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى) وفي الرواية السابقة: "وأول الخلائق يكسى" (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام -) قال القرطبيّ في "شرح مسلم": يجوز أن يراد بالخلائق مَن عدا نبينا - صلى اللَّه عليه وسلم -، فلم يدخل في عموم خطابه نفسه. وتعقّبه تلميذه القرطبيّ أيضًا في "التذكرة"، فقال: هذا حسنٌ لولا ما جاء من حديث عليّ - رضي اللَّه عنه - يعني الذي أخرجه ابن المبارك في "الزهد" من طريق عبد اللَّه بن الحارث، عن عليّ - رضي اللَّه عنه -، قال: "أول من يكسى يوم القيامة خليل اللَّه - عليه السلام - قبطيتين، ثم يكسى محمد - صلى اللَّه عليه وسلم - حلة حبرة عن يمين العرش". قال الحافظ: كذا أورده مختصرًا موقوفا، وأخرجه أبو يعلى مطوّلاً مرفوعًا، وأخرج البيهقيّ من طريق ابن عباس نحو حديث الباب، وزاد: "أول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسيّ، فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي، فأُكسى حلة من الجنة، لا يقوم لها البشر، ثم يؤتى بكرسيّ، فيطرح على ساق العرش، وهو عن يمين العرش". وفي مرسل عبيد بن عمير، عند جعفر الفريابيّ: "يحشر الناس حفاة عراة، فيقول اللَّه تعالى: ألا أرى خليلي عريانا؟ فيكسى إبراهيم ثوبا أبيض، فهو أول من يكسى". وقد أخرج ابن منده من حديث حَيدَة -بفتح المهملة، وسكون التحتانيّة- رفعه، قال: "أول من يكسى إبراهيم، يقول اللَّه: اكسوا خليلي؛ ليعلم الناس اليوم فضله عليهم".
(١) - "فتح" ج ١٣ ص ١٩٥ "كتاب الرقائق" - "باب الحشر". رقم ٦٥٢٦.