يعرفه، فكيف لم يقتصّ له من فقء عينه؟.
والجواب أن اللَّه لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارا، وإنما لطم موسى ملك الموت؛ لأنه رآه آدميّا، دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه.
وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم، وإلى لوط في صورة آدميين، فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم، لما قدّم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه.
وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتاع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقتصّ له؟.
ولخّص الخطّابيّ كلام ابن خزيمة، وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه؛ لما رُكِّبَ فيه من الحدّة، وأن اللَّه ردّ عين الملك؛ ليعلم موسى أنه جاءه من عند اللَّه؛ فلهذا استسلم حينئذ.
وقال النوويّ: لا يمتنع أن يأذن لموسى في هذه اللطمة امتحانًا للملوم.
وقال غيره: إنما لطمه؛ لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخبره؛ لما ثبت أنه لم يُقبض نبيّ حتى يُخيّر؛ فلهذا لما أخبره في المرّة الثانية أذعن.
قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب. وفيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبيّ اللَّه، وأخلّ بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانًا.
وزعم بعضهم أن معنى "فَقَأَ عينه" أي أبطل حجته. وهو مردود بقوله في نفس الحديث "فردّ اللَّه عينه"، وبقوله: "لطمه لطمة"، وغير ذلك من قرائن السياق.
وقال ابن قتيبة: إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل، وتمثيل، وليست عينا حقيقة، ومعنى "ردّ اللَّه عينه ": أي أعاده إلى خلقته الحقيقية. وقيل: على ظاهره، ورد اللَّه إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره. وهذا هو المعتمد.
وجوّز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك، كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح التاويلات عندي ما قاله الإمام ابن خزيمة، ونقل عن غيره من المتقدمين، -رحمهم اللَّه تعالى-:
(١) - "فتح" ج ٧ ص ١٠٤ - ١٠٥. "كتاب أحاديث الأنبياء" - وفاة موسى. رقم ٣٤٠٧.