(فَقُلْتُ: مُرْنِي) -بضم الميم، وسكون الراء- فعل أمر من الأمر بحذف فاء الفعل، تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، ومثله "كُلْ"، أمر من الأكل، و"خُذْ" أمر من الأخذ، قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى- في مادّة "أمر": وإذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدّمه حرف عطف حذفت الهمزة على غير قياس، وقلت: مُرْه بكذا، ونظيره "كُلْ"، و"خُذْ"، وإن تقدّمه حرف عطف، فالمشهور ردّ الهمزة على القياس، فيقال: وأمر بكذا، ولا يُعرف في "كل"، و"خذ" إلا التخفيف مطلقًا انتهى. وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "لاميّة الأفعال" حيث قال [من البسيط]:
(بِأَمْرٍ) أي بشيء من العبادات (آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ) - صلى اللَّه عليه وسلم - (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ) أي الزم الصوم، وأكثر منه، والمراد به الصوم الشرعيّ، إذ هو المتبادر عند إطلاق الشارع. قال السنديّ: ويحتمل أن يكون المراد بالصوم كفّ النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلها، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: ١٣] انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال بعيد. واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ) الفاء للتعليل، أي لأنه لا نظير له في كثرة الثواب، أو في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمّارة، والشيطان، والأول أقرب، لقوله في الرواية الآتية:"أيّ العمل أفضل" … "، وقد تقدّم أن الحافظ ابن عبد البرّ أشار إلى ترجيح الصوم على غيره من العبادات، فقال: حسبك يكون الصيام جُنَّةً من النار فضلاً، ويدلّ له أيضًا هذا الحديث، والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.
وعند الحافظ سمويه في "فوائده" من طريق المسيّب بن رافع، عن أبي صالح: "يترك شهوته، من الطعام، والشراب، والجماع من أجلي".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الجمهور أرجح، لحديث ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -، قال: سألت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أي العمل أحبّ إلى اللَّه؟ قال: "الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال:"ثم برّ الوالدين"، قلت: ثم أيّ؟ قال:"الجهاد في سبيل اللَّه … " الحديث. متفق عليه. ولحديث أحمد، وابن ماجه، والدارميّ بإسناد صحيح: وفيه: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".
فتُحمَل خيرية الصوم المذكورة في حديث الباب على غير الأمور المذكورة في حديث ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -، ونحوها. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(١) قوله: "ومُسْتَنْدَرٌ إلخ" إشارة إلى أنه سمع إتمام "خذ" و"كل" على قلة، وهذا خلاف ما قاله في "المصباح": إنه لا يعرف في "كل" و"خذ" إلا التخفيف. ولكنَّ ابنَ مالك إمام، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فتنبّه.