"لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته - صلى اللَّه عليه وسلم -، حيث يقول:"لئِن عشت لأصومنّ التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفّر سنة، وأيّ تأكيد أبلغ من هذا؟ انتهى.
فتبيّن بهذا أن الصواب أن صوم عاشوراء كان فرضًا، ثم نسخ بفرض رمضان. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وصرّح ابن حبيب من المالكيّة بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق، فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارًا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشكّ، ثم رأى الهلال، وكلّ ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء.
بل ورد ذلك صريحًا في حديث أبي داود، والنسائيّ، من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة (١)، عن عمّه: أن أسلم أتت النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقال:"صمتم يومكم هذا؟ "، قالوا: لا، قال:"فأتمّوا بقية يومكم، واقضوه". وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء، فلا يتعيّن ترك القضاء، لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ، أو أسلم في أثناء النهار.
واحتجّ الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب "السنن" من حديث عبد اللَّه بن عمر، عن أخته حفصة - رضي اللَّه عنهم - أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قال:"من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له". لفظ النسائيّ، ولأبي داود، والترمذيّ:"من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
واختُلف في رفعه ووقفه، ورجّح الترمذيّ، والنسائيّ الموقوف، بعد أن أطنب النسائيّ في تخريج طرقه. وحكى الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ ترجيح وقفه.
وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة، فصحّحوا الحديث، منهم: ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، وابن حزم. وروى له الدارقطنيّ طريقًا آخر، وقال: رجالها ثقات.
وأبعَدَ من خصّه من الحنفيّة بصيام القضاء والنذر، وأبعَدُ من ذلك تفرقة الطحاويّ
(١) - قال ابن القطان: مجهول، وقال الذهبيّ: لا يعرف. فالحديث بزيادة: "واقضوه" لا يصحّ، لكونه من طريق عبد الرحمن بن سلمة، وهو وإن ذكره ابن حبان في "الثقات"، مجهول.