للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرّمًا، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقّة والضعف، وشبه التبتّل المنهي عنه؛ بدليل أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قال لعبد اللَّه بن عمرو: "إنك تصوم الدهر، وتقوم الليل"، فقلت: نعم، قال: "إنك إذا فعلت ذلك هَجَمَت له عينك، ونَفِهَت له نفسك، لا صام من صام الدهر … " الحديث.

واحتجّ الجمهور على الاستحباب بما صحّ من حديث حمزة بن عَمْرو الأسلميّ - رضي اللَّه عنه -، أنه قال: يا رسول اللَّه، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم"، فأقرّه - صلى اللَّه عليه وسلم - على سرد الصيام، ولو كان مكروهًا لم يقرّه.

وأجيب عن هذا: أولاً بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر، لا عن صوم الدهر، كما سبق. وثانيًا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر؛ لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم، وكان هو كثير الصوم، كما ورد في بعض الروايات، ويؤيّد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد، والنسائيّ من حديث أسامة ابن زيد أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - كان يسرد الصوم، مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، بل لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان. وبهذا يجاب عما رُوي عن عمر، وعائشة أنهما كانا يسردان الصوم.

واحتجّوا أيضًا بما وقع في بعض طرق حديث عبد اللَّه بن عمرو الآتي: "صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر". وفي حديث أبي أيوب - رضي اللَّه عنه - مرفوعًا: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوّال كان كصيام الدهر". رواه مسلم. قالوا: والمشبّه به يكون أفضل من المشبه، فدلّ ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات، فيكون مستحبّا، وهو المطلوب.

وتُعُقّب بأن التشبيه في الأمر المقدّر لا يقتضي جوازه، فضلًا عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يومًا. ومن المعلوم أن المكلّف لا يجوز له صيام جميع السنة، فلا يدلّ التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه. كذا ذكره الحافظ.

وقد بسط هذا الجواب ابن القيّم في "الهدي"، فأجاد.

وأجاب الجمهور عن حديث "لا صام من صام الأبد"، وحديث "لا صام، ولا أفطر" بأجوبة:

(أحدها): أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين، وأيام التشريق.

وفيه نظر؛ لأنه - رضي اللَّه عنه - قد قال جوابًا لمن سأله عن صوم الدهر: "لا صام، ولا أفطر"، وهو يؤذن بأنه ما أُجر، ولا أثم، ومن صام الأيام المحرّمة لا يقال فيه ذلك؛