للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ازداد عند اللَّه رفعةً، وعنه كرامة.

ورجّح هذا التأويلَ جماعةٌ، منهم الغزالي، فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق اللَّه عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان؛ لأنه ضيّق طرقها بالعبادة.

وتُعقّب بأنه ليس كلّ عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من اللَّه تقرّبًا، بل ربّ عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدًا، كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضًا لو كان المراد ما ذكروه لقال: ضيّقت عنه، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها.

قال ابن حزم بعد ذكر التأويل: ما لفظه: هذه لُكْنة وكَذِبٌ، أما اللكنة فإنه لو أراد هذا لقال: ضيّقت عنه، ولم يقل: عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهي عن صومه انتهى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب إجراء الحديث على ظاهره، والقول بمنع صيام الدهر مطلقًا.

قال الشوكانيّ في "السيل الجرّار" -بعد ذكر حديث أبي موسى-: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسّف وتكلّف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر، وهو مخالف للهدي النبويّ، وهو أمر لم يكن عليه أمر رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وقد قال - صلى اللَّه عليه وسلم - فيما صحّ عنه: "كلّ أمر ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، وهو أيضًا من الرغبة عن سنة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، ومن رغب عن سنته، فليس منه، كما تقدّم، وهو أيضًا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرّت عليه هذه الشريعة المطهّرة، قال اللَّه تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وقال - صلى اللَّه عليه وسلم -: "يسّروا، ولا تُعسّروا، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه"، وقال: "أمِرتُ بالشريعة السمحة السهلة" (٢).

فالحاصل أن صوم الدهر إذا لم يكن محرمًا بحتا، فأقلّ أحواله أن يكون مكروهًا

كراهة شديدة. هذا لمن لا يضعف بالصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعيّة، فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجرّدها من غير نظر إلى ما قدّمنا من الأدلةّ انتهى كلام الشوكاني (٣).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبَيَّنَ بما ذُكِرَ أن أرجحَ الأقوال قولُ من قال بتحريم


(١) - "المحلى" ج ٧ ص ١٦.
(٢) - أخرجه أحمد بلفظ: "إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة … الحديث. وفي سنده لين الحديث، وعلي بن يزيد الألهاني ضعيف.
(٣) - ٢ ص ١٤٢ - ١٤٣.