عَلَى أَنْ أَجْتَهِدَ, اجْتِهَادًا شَدِيدًا, حَتَّى قُلْتُ: لأَصُومَنَّ الدَّهْرَ, وَلأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ, فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -, فَأَتَانِي, حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ فِي دَارِي, فَقَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: لأَصُومَنَّ الدَّهْرَ, وَلأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ» , فَقُلْتُ: قَدْ قُلْتُ: ذَلِكَ, يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ, صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» , قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: «فَصُمْ مِنَ الْجُمُعَةِ, يَوْمَيْنِ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسَ» , قُلْتُ: فَإِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -, فَإِنَّهُ أَعْدَلُ الصِّيَامِ, عِنْدَ اللَّهِ, يَوْمًا صَائِمًا, وَيَوْمًا مُفْطِرًا, وَإِنَّهُ كَانَ إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ, وَإِذَا لَاقَى لَمْ يَفِرَّ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن بكّار": هو الحرّانيّ، صدوق، من أفراد المصنّف. و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ أيضًا.
و"ابن إسحاق": هو محمد صاحب المغازي. و"محمد بن إبراهيم": هو التيميّ. وكلهم من رجال الصحيح، غير شيخه.
وقوله: "يومًا صائمًا الخ" منصوب على أنه خبر "يكون" مقدرًا، أي يكون داود يومًا صائمًا، ويكون يومًا مفطرًا، ويحتمل أن يكون خطابًا لعبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه عنهما -، أي تكون يومًا صائمًا، ويومًا مفطرًا.
وقوله: "كان إذا وعد لم يُخلف" هذه الزيادة لم تذكر في غير هذا الطريق، بل المذكور قوله: "ولا يفرّ إذا لاقى".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولها مناسبة بالمقام، وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه، فيكون كمن وعد، فأخلف، كما أن في قوله: "ولا يفرّ إذا لاقى" إشارة إلى حكمة صوم يوم، وفطر يوم.
وقال الخطابي -رحمه اللَّه تعالى-: محصّل قصّة عبد اللَّه بن عمرو أن اللَّه تعالى لم يتعبّد عبده بالصوم خاصّة، بل تعبّده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصّر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه؛ ليستبقي بعض القوّة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله - صلى اللَّه عليه وسلم - في داود - عليه السلام -: "وكان لا يفرّ إذا لاقى"؛ لأنه كان يتقوّى بالفطر؛ لأجل الجهاد. انتهى (١).
وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ولا يفرّ إذا لاقى" تنبيه على أن صوم يوم، وإفطار يوم لا يُضعُف ملتزمه، بل يحفظ قوّته، ويجدُ من الصوم مشقّته، كما قدمناه، وذلك بخلاف سرد الصوم، فإنه يُنهك البدن والقوّة، ويزيل روح الصوم؛ لأنه يعتاده،
(١) - "فتح" ج ٤ ص ٧٤٢.